اسعار واسواق

توغّل «مؤقت» أم «احتلال»؟ أسئلة حول التواجد الإسرائيلي بجنوب سوريا


بين خطاب «الدفاع الوقائي» ووقائع النار على الأرض، يتقدم الوجود الإسرائيلي في جنوب سوريا كاختبارٍ جديد لحدود الأمن وحدود الاحتلال.

فعمليات التوغل التي تقول تل أبيب إنها استباقية، تحوّلت في عيون السوريين إلى «مشاهد دمٍ مفتوح»، حيث تختلط الذرائع العسكرية بحسابات فرض الأمر الواقع، ويصبح المدنيون وقود معادلات لا تُعلن كاملة.

من بيت جن إلى جبل الشيخ، ترسم إسرائيل خطوط نفوذ جديدة تحت عنوان منع التهديد، لكنها تُراكم في المقابل أسئلة ثقيلة: هل هو انتشار مؤقت أم تمهيد لاحتلال طويل الأمد؟ وهل يمكن لأمنٍ يُبنى فوق قرى مدمّرة أن يصنع استقرارًا، أم أنه يؤسس لجولة صراع مؤجلة في أرض لم تلتقط أنفاسها بعد؟

فماذا يقول السوريون؟

في قرية بيت جن جنوب غرب سوريا، استيقظ قاسم حمادة الشهر الماضي على وقع إطلاق نار وانفجارات. خلال ساعات قليلة، فقد اثنين من أبنائه، وزوجة ابنه، وحفيديه البالغين أربعة وعشرة أعوام. وكان هؤلاء من بين 13 مدنيًا سقطوا في ذلك اليوم خلال عملية نفذتها القوات الإسرائيلية داخل القرية.

الجيش الإسرائيلي قال إن قواته داهمت بيت جن – في عملية ليست الأولى – لاستهداف عناصر من جماعة مسلحة كانت تخطط لشن هجمات داخل إسرائيل، مشيرًا إلى أن مسلحين بادروا بإطلاق النار ما أدى إلى إصابة ستة جنود، وأن القوات ردّت بإطلاق النار واستعانت بإسناد جوي، بحسب وكالة أسوشيتدبرس.

رواية مغايرة

غير أن رواية السكان بدت مغايرة تمامًا، فبحسب حمادة وأهالي القرية، لم تكن هناك جماعات مسلحة منظّمة، بل قرويون واجهوا الجنود الإسرائيليين باعتبارهم قوة غازية، قبل أن تتعرض المنطقة لقصف بالدبابات والمدفعية أعقبه هجوم بطائرة مسيّرة. ووصفت الحكومة السورية ما جرى بـ«المجزرة».

هذه الحادثة، إلى جانب تحركات إسرائيلية أخرى داخل الأراضي السورية، أسهمت في رفع منسوب التوتر، وأثارت غضب السكان المحليين، كما بددت آمال حدوث أي انفراجة قريبة في العلاقات بين دمشق وتل أبيب، رغم مساعٍ وضغوط أمريكية في هذا الاتجاه.

فرض واقع جديد على الأرض؟

بدت ملامح تقارب محتمل بين سوريا وإسرائيل في ديسمبر/كانون الأول الماضي، عقب الإطاحة بالرئيس السابق بشار الأسد على يد فصائل معارضة تقودها جماعات إسلامية سنية.

وأكد الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع، الذي قاد تلك الفصائل، أنه لا يسعى إلى صدام مع إسرائيل. إلا أن تل أبيب أبدت تشككًا في نواياه، مستندة إلى ماضيه وصلات جماعته السابقة بتنظيم القاعدة.

وسرعان ما تحركت القوات الإسرائيلية لفرض معادلة جديدة، فدخلت المنطقة العازلة الخاضعة لإشراف الأمم المتحدة في جنوب سوريا بمحاذاة هضبة الجولان، التي احتلتها إسرائيل عام 1967 وضمتها لاحقًا في خطوة لا يعترف بها معظم المجتمع الدولي.

كما أقامت نقاط تفتيش ومنشآت عسكرية على تلال استراتيجية تشرف على مساحات واسعة من الأراضي السورية، كما أنشأت منصات هبوط على جبل الشيخ القريب.

وباتت طائرات الاستطلاع الإسرائيلية المسيّرة تحلّق بشكل شبه دائم فوق البلدات السورية المجاورة، فيما يشاهد السكان دبابات وآليات عسكرية إسرائيلية تقوم بدوريات منتظمة.

ورغم تأكيد إسرائيل أن وجودها «مؤقت» ويهدف إلى إزالة تهديدات محتملة وحماية أمنها، فإنها لم تقدم أي إشارات واضحة بشأن موعد الانسحاب، فيما لم تفضِ المحادثات الأمنية بين الطرفين إلى نتائج ملموسة.

هواجس

التجربة اللبنانية والحرب في غزة عمّقت مخاوف السوريين من نيات إسرائيل. ففي جنوب لبنان، لا تزال القوات الإسرائيلية متمركزة في عدة نقاط رغم مرور أكثر من عام على وقف إطلاق النار الذي أنهى الحرب الأخيرة مع «حزب الله».

ورغم إضعاف الحزب بشكل كبير جراء الغارات والاجتياحات الإسرائيلية، تحتفظ تل أبيب بخمس نقاط استراتيجية، وتواصل تنفيذ ضربات جوية وتحليقًا استطلاعيًا وتوغلات محدودة.

وخلال اجتماع إقليمي ودولي في الدوحة هذا الشهر، اتهم الشرع إسرائيل بتوظيف «تهديدات متخيلة» لتبرير سياساتها، مؤكدًا أن انسحابها إلى الخطوط التي سبقت سقوط الأسد هو السبيل الوحيد لضمان أمن متبادل بين البلدين.

ضغوط 

في موازاة ذلك، تواجه القيادة السورية الجديدة تحديات عدة، فالاتفاق مع السلطات الكردية في شمال شرق البلاد تعثر، فيما تشهد محافظة السويداء الجنوبية إدارة أمر واقع تقودها الطائفة الدرزية عقب اشتباكات دامية مع عشائر بدوية. وقد تدخلت القوات الحكومية السورية في تلك الأحداث، ما أسفر عن مقتل مئات المدنيين، غالبيتهم من الدروز.

وتسعى إسرائيل إلى تقديم نفسها كحامية للدروز، كما أبدت اهتمامًا بالتواصل مع الأكراد، وهي سياسة وصفها مايكل يونغ، كبير المحررين في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، بأنها «بالغة الخطورة»، وتتعارض مع الموقف الدولي – بما في ذلك الولايات المتحدة – الداعي إلى قيام دولة سورية موحدة وقادرة.

تباين أمريكي–إسرائيلي

رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أكد، في تصريح مصور عقب زيارته جنودًا جرحى قرب بيت جن، أن بلاده تسعى لإقامة «منطقة عازلة منزوعة السلاح من دمشق إلى المنطقة العازلة الأممية»، تشمل جبل الشيخ، مع إبقاء باب الاتفاقات مفتوحًا «دون التنازل عن المبادئ».

غير أن هذه الرؤية قوبلت بفتور دولي وانتقادات أمريكية نادرة. فقد شدد ترامب، في منشور على «تروث سوشيال»، على ضرورة الحفاظ على حوار صادق مع دمشق وعدم عرقلة مسارها نحو الاستقرار والازدهار، في إشارة واضحة إلى تحفظ واشنطن على التصعيد الإسرائيلي.

ويرجح خبراء أن إسرائيل لن تنسحب من سوريا قريبًا، في ظل اختلال موازين القوة. ويقول المستشار العسكري عصام الريس إن إنشاء منصات هبوط عسكرية «رسالة واضحة بأن الوجود ليس مؤقتًا».

أما قاسم حمادة، الذي فقد خمسة من أفراد عائلته، فيختصر المأساة بمرارة: «إسرائيل تضرب حيث تشاء، وتدمّر ما تشاء، وتقتل من تشاء، ولا أحد يحاسبها».

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=

جزيرة ام اند امز

NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى