فيروز.. أسطورة الغناء والأحزان تفضل العزلة (بروفايل)

هناك أصوات لا تختفي مع مرور الزمن، بل تترك أثرًا دائمًا في الذاكرة، تصنع حضورًا يتجاوز مجرد النغمة، صوت يرافق الإنسان في صباحه ومساءه، ويظل حيًا في قلبه مهما تباعدت المسافات.
صوت “فيروز” أحد هذه الأصوات؛ ينساب بين الحزن والفرح، بين الغربة والوطن، ويترك أثره في النفوس قبل أن يصل إلى الآذان.
مع حلول 21 من نوفمبر/تشرين الثاني، نستعيد ذكرى ميلاد هذه الفنانة التي صارت جزءًا من تاريخ الطرب العربي، جارة القمر وزهرة الغناء، والتي استطاعت عبر مسيرتها الطويلة أن تجمع بين الرقة والقوة، بين بساطة الأداء وعمق التعبير.
اليوم ليس مجرد احتفال بعيد ميلاد، بل فرصة للتأمل في تجربة فنية وحياة فريدة، حملت فيها فيروز صوت وطنها وحكايات شعبها، وخلقت لنفسها مكانة مستقلة في القلوب قبل المسارح، في البيوت قبل القصور.
من زقاق البلاط إلى قلوب الناس
ولدت نهاد رزق وديع حداد في 21 نوفمبر/تشرين الثاني 1935، في حي “زقاق البلاط” ببيروت، وسط أسرة بسيطة.
منذ طفولتها، كانت الطفلة تنصت لأصوات أم كلثوم ومحمد عبدالوهاب وليلى مراد، وتلاحق الأنغام في الأزقة والشوارع، كأنها تبحث عن عالم أكبر من زقاقها الضيق.

في المدرسة، لاحظ المدرسون موهبتها الغنائية، وساعدها الموسيقي محمد فليفل على الانضمام إلى فرقة “كورس” الإذاعة اللبنانية.
رغم رفض والدها لمهنة الغناء، تمسكت نهاد بحلمها، والتحقت بالمعهد الوطني للموسيقى، لتبدأ رحلة طويلة نحو النجومية، رحلة لم تعرف الاستسلام أو التراجع أمام أي عقبة.
عاصي الرحباني.. بداية المدرسة الفنية
عام 1952 كان بداية ميلاد تجربة جديدة، حين تعرفت على الموسيقار عاصي الرحباني، الذي أصبح شريك حياتها الفنية والشخصية. مع انضمام شقيقه منصور الرحباني، تشكل الثلاثي الذي سيعيد تعريف الأغنية العربية، ويمزج بين الطرب الشرقي الكلاسيكي والتجريب الموسيقي الحديث، ليصبح نموذجًا للفن الراقي والمستدام.

تزوجت فيروز وعاصي عام 1955، وامتزجت حياتها الفنية بالعاطفية، وأنجبت 4 أبناء: زياد، هالي، ريما، وليال.
خلال هذه السنوات، قدّمت أعمالًا فنية خالدة مثل: “بياع الخواتم”، “جسر القمر”، “الليل والقنديل”، و”هالة والملك”، لتصبح مطربة القلوب التي توحد جمهورها من البسطاء إلى الملوك.
مسيرة الإبداع… من المسرح إلى العالمية
استمرت فيروز في تقديم الأغنية والمسرح الغنائي عبر مسرحيات وأعمال موسيقية تجاوزت الحدود العربية، مع أعمال خالدة تتناول الحب والوطن والفرح والألم.
بعد رحيل زوجها عاصي الرحباني عام 1986، دخلت فترة صمت وابتعاد عن الأضواء، لكنها عادت تدريجيًا عبر تعاونها مع ملحنين جدد، أهمهم ابنها زياد الرحباني، لتتجدد صورتها الفنية مع الحفاظ على طابعها الأصيل.

في التسعينيات، وصل حضورها إلى العالمية من خلال ألبومات مثل: “كيفك إنت”، “إيه في أمل”، و”فيروز في بيت الدين”، وأصبح صوتها مسموعًا في كل مكان، من البيوت العربية إلى الأحياء في مختلف الدول، محتفظًا بتلك الدفء الخاص الذي جعل من حضورها علامة فارقة في عالم الطرب.
زهرة الغناء والوطن
عرفت فيروز بولائها العميق لوطنها لبنان، ولم تغادره أثناء الحرب، بل غنت للوحدة والسلام والأمل: “بحبك يا لبنان”، “يا هوى بيروت”، و”لبنان يا أخضر لونك حلو”. كما امتدت رسالتها للعالم العربي، فغنت للقدس “زهرة المدائن”، ولدمشق “إلى دمشق”، وللمصريين “مصر عادت شمسك الذهبي” و”شط إسكندرية”. رفضت الغناء للرؤساء، مؤمنة أن صوت الفنان للشعوب لا للسلطة.
خزانة فيروز الفنية غنية جدًا: 36 ألبومًا غنائيًا، 26 اسكتشًا، 15 مسرحية، و3 أفلام سينمائية، لكن الأهم بالنسبة لها هو رضا الجمهور وحبهم، وهو الوسام الذي يزين حياتها الفنية أكثر من أي جائزة رسمية.

أحزان جارة القمر
ورغم كل هذا البريق، عرف حياة فيروز محطات حزن عميقة. البداية كانت بفقدان زوجها عاصي الرحباني، الذي كان شريكها في الحياة والفن، تاركًا فراغًا لم يملأه شيء. وبعد عقود، جاء الرحيل الثاني الأشد قسوة: فقدان ابنها زياد الرحباني، الذي كان رفيق دربها الفني والإنساني.

ظهرت فيروز في عزائه بملامح حزينة، واختارت العودة إلى عزلتها المألوفة، بعيدًا عن الأضواء ووسائل الإعلام، محتفظة بخصوصيتها مع ابنتها ريما والمقربين، تعيد ترتيب ذكرياتها وتعيش صمتها كفضاء لإعادة شحن روحها وفنها. العزلة بالنسبة لها ليست انطواءً، بل مساحة للحياة الداخلية والتأمل والارتباط بالفن والحب العميق للوطن.

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز




