الغرب وإيران واليورانيوم «المفقود».. ما وراء القلق والصمت؟

غموض يكتنف مصير مخزون إيران من اليورانيوم المخصب ويثير قلق الغرب لكنه يكشف أيضا هشاشة التوازن القائم بين الردع والرقابة.
وبحسب وكالة بلومبيرغ، فإنه منذ أن تلقت المنشآت النووية الإيرانية ضربات متزامنة نفّذتها إسرائيل وأمريكا، انقطعت قدرة الوكالة الدولية للطاقة الذرية على التحقق من كمية ومكان المواد النووية داخل البلاد.
ودفع ذلك مديرها العام، رافائيل ماريانو غروسي، إلى التحذير من أن «عدم قدرة مفتشي الوكالة على الوصول إلى المواقع النووية منذ خمسة أشهر يضع النظام الرقابي في حالة تأخير خطيرة وغير مسبوقة».
لكنّ المسألة لا تتعلق فقط بـ”فقدان المواد النووية”، بل بتراجعٍ أعمق في منظومة الثقة التي بُنيت على مدار عقدين بين إيران والمجتمع الدولي.
فالهجمات الجوية الأخيرة لم تدمر منشآت فحسب، بل أزالت عملياً بنية المراقبة التي وفّرت للوكالة الدولية منفذاً دائماً إلى قلب البرنامج النووي الإيراني، وهو ما جعل الغموض الحالي أكثر إرباكاً حتى من مرحلة ما قبل توقيع الاتفاق النووي عام 2015.
انعدام الشفافية
ومنذ انسحاب واشنطن من الاتفاق النووي في عام 2018 بقرار من الرئيس الأمريكي آنذاك دونالد ترامب، دخل البرنامج الإيراني مرحلة تصعيد متدرّج.
وردا على ذلك، رفعت طهران مستويات التخصيب إلى حدود مقلقة، وقلّصت تعاونها مع المفتشين الدوليين، متذرّعة بأن الولايات المتحدة هي من خرق التفاهمات أولاً. وبذلك تحوّل الملف النووي إلى ساحة مساومة سياسية أكثر منه قضية تقنية.
وتعتبر طهران أن تسريع تخصيب اليورانيوم وإعادة تشغيل أجهزة الطرد المركزي رسالة مزدوجة: ضغطٌ على الغرب لإعادة التفاوض بشروط أكثر توازناً، وردعٌ ضدّ أي محاولة لفرض تنازلات قسرية.
غير أن هذه الاستراتيجية جعلت البرنامج النووي رهينة لحسابات القوة والهيبة، لا لمقتضيات التنمية أو الاستقلال العلمي كما كانت تصوّره الخطابات الرسمية في بداياته.
ضربات وتآكل الردع
مثّلت الضربات الإسرائيلية والأمريكية الأخيرة تحوّلاً نوعياً في قواعد اللعبة، فبعد سنوات من الحرب السيبرانية والعمليات السرّية، انتقل الصراع إلى مواجهة عسكرية مفتوحة ضد البنية التحتية النووية الإيرانية.
ورغم تدمير تلك الضربات أجزاءً كبيرة من الأنشطة السطحية، إلا أنها كشفت عن معضلة استراتيجية: فكلما ازدادت الهجمات، تراجعت قدرة الوكالة الدولية على مراقبة المواد النووية، ما يزيد من خطر «المنطقة الرمادية»، أي احتمال “فقدان تتبّع بعض المواد المخصبة أو نقلها إلى مواقع غير معلنة”.
وبالنسبة لإسرائيل، يُعدّ تعطيل البرنامج الإيراني إنجازاً تكتيكياً، لكنه في نظر كثير من المحللين مكسبا قصير الأمد قد يؤدي إلى نتائج عكسية.
فالهجوم، بدل أن يحدّ من قدرات إيران، أعاد تأجيج النزعة القومية داخلها، ودفع القيادة الإيرانية إلى التشدد في شروط العودة إلى المفاوضات، مطالبةً بضمانات أمنية تمنع أي تكرار للقصف مستقبلاً.
توازن هش
المفارقة أن إيران تستخدم الغموض النووي اليوم كأداة تفاوضية – فهي لا تعلن عن نوايا عسكرية، لكنها أيضاً لا تقدم أدلة كافية على الطابع السلمي لبرنامجها.
وهذا الغموض المحسوب يمنحها هامشاً سياسياً في مواجهة الغرب، لكنه يعرّضها في الوقت ذاته لعقوبات إضافية ويؤجج الشكوك الدولية.
كما تُدرك طهران أن العودة الكاملة إلى الشفافية دون مكاسب ملموسة في تخفيف العقوبات ستُظهرها بمظهر الطرف الضعيف، بينما يرى الغرب أن أي تنازل في الرقابة سيكون بمثابة تفويض مفتوح لإيران بالاقتراب أكثر من «العتبة النووية».
وهكذا يدور الطرفان في حلقة مفرغة: لا ثقة بلا رقابة، ولا رقابة بلا ضمانات.
ما بعد القلق التقني
في ختام تقريره، شدد غروسي على أن الوكالة «لن تكون قادرة على تأكيد سلمية البرنامج الإيراني ما لم يُستأنف التعاون الكامل».
لكن ما يقلق كثيراً من الدبلوماسيين الغربيين ليس فقط مصير اليورانيوم المفقود، بل مصير النظام الدولي للرقابة النووية نفسه، إذا نجحت دولة بحجم إيران في الإفلات من المراقبة من دون عواقب واضحة.
وحتى إشعارٍ آخر، يظل السؤال الأكبر بلا إجابة: هل فُقد اليورانيوم فعلاً — أم أن إيران اختارت أن تُخفيه مؤقتاً لتصنع من الغموض سلاحاً دبلوماسياً جديداً؟
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز




