أبوجا وكيب تاون.. محور التوازن في النظام الأفريقي الجديد

في عالم يُعاد تشكيل خرائطه على وقع الصفقات والاصطفافات، تقف أفريقيا أمام لحظة فارقة قد تحدد ملامح حضورها في النظام الدولي الجديد.
فبينما يتراجع النموذج الليبرالي الذي حكم العلاقات الدولية منذ الحرب العالمية الثانية، تبرز القارة السمراء أمام خيارين: أن تبقى ساحة لتجاذب القوى الكبرى، أو أن تُعيد تعريف موقعها كقوة صاعدة تمتلك الإرادة والموارد والموقع لتكون شريكًا في صياغة المستقبل لا مجرد تابع له، بحسب صحيفة «فورين أفيرز».
وفي قلب هذه المعادلة، تبرز نيجيريا وجنوب أفريقيا بوصفهما المحركين الطبيعيين لنهضة أفريقية ممكنة؛ فالأولى تملك الزخم الديموغرافي والعمق الثقافي والامتداد الإقليمي، فيما تملك الثانية: البنية الصناعية والخبرة المؤسسية والنفوذ الدولي. ومعًا، يمكنهما أن يُشكّلا «قطب القارة» الجديد، يعيد توجيه مسارها نحو التكامل الاقتصادي والاستقرار السياسي، ويمنح أفريقيا صوتًا موحدًا في عالم لا ينتظر المترددين.
فكيف يمكن لنيجيريا وجنوب أفريقيا قيادة القارة نحو الاستقرار؟
وبحسب الصحيفة الأمريكية، فإن النجاح في عصر إبرام الصفقات يتطلب نفوذًا تفتقر إليه معظم الدول الأفريقية، مشيرة إلى أنه رغم أن القارة السمراء موطن لحوالي 20% من سكان العالم، لكنها لا تُمثّل سوى 5% من نشاطه الاقتصادي.
إلا أن الدول الأفريقية ستحظى بفرصة أفضل للازدهار في النظام الدولي ما بعد الليبرالي إذا ما تضافرت جهودها؛ فالتنسيق الوثيق، حتى بين عدد قليل منها، من شأنه أن يُسرّع وتيرة التكامل الاقتصادي في القارة، ويعزز نمو الأسواق، ويُسرّع عجلة التصنيع، كما أن تعزيز التماسك من شأنه أن يمنح المنطقة نفوذًا أكبر في مفاوضات التجارة والاستثمار مع القوى الخارجية.
فهل هذا ممكن؟
يصعب هندسة هذا التنسيق، لكنه ليس مستحيلاً، تقول «فورين أفيرز»، مشيرة إلى أنه بين خمسينيات وسبعينيات القرن الماضي، ومع استقلال المستعمرات السابقة عن الإمبراطوريات الأوروبية المتراجعة، توحدت الدول الأفريقية حول التزام مشترك بتقرير المصير.
وتبادل القادة في جميع أنحاء القارة الأفكار والموارد المالية والأسلحة دعماً لحركات الاستقلال في بعضهم البعض. وعندما نالت غانا الحكم الذاتي عام 1957، أعلن زعيمها، كوامي نكروما، أن استقلال البلاد «لن يكون له معنى حتى يرتبط بالتحرير الكامل للقارة الأفريقية».
وفي عام 1963، اجتمع قادة 32 دولة أفريقية مستقلة حديثاً في أديس أبابا لإنشاء منظمة الوحدة الأفريقية. وأصبحت منظمة الوحدة الأفريقية، أول مؤسسة متعددة الأطراف في القارة، أداة فعّالة في تنسيق الدعم لحركات الاستقلال الأفريقية وصياغة إجماع دولي لدعم التحرير الأفريقي.
كانت الوحدة الأفريقية خلال هذه الفترة مدفوعة بغرض أخلاقي ودافع عنها قادة الدول الأولى التي نالت استقلالها، بما في ذلك غانا والسنغال وتنزانيا وزامبيا. وقد وحدت هذه الروح النخب عبر الحدود والأعراق واللغات، مما أدى إلى إجماع قوي لصالح الاستقلال.
لكن.. لماذا نيجيريا وجنوب أفريقيا؟
وفي عصر اليوم الأكثر معاملاتية، فإن الوحدة الأفريقية تتقدم بشكل أفضل من خلال أجندة اقتصادية مشتركة، بحسب الصحيفة الأمريكية، مشيرة إلى أن اثنتين من أقوى دول القارة، نيجيريا وجنوب أفريقيا، هما الأفضل تجهيزًا لقيادة هذه المهمة. ويمكنهما معًا حشد النفوذ الجيوسياسي والموارد المالية والتأثير الثقافي اللازم لحشد التعددية، إن لم يكن الأغلبية، من الدول الأفريقية وراء رؤية عالمية.
وأشارت إلى أن جنوب أفريقيا ونيجيريا، أكبر اقتصادين في القارة، هما الأفضل وضعًا لتولي زمام القيادة الأفريقية في هذا العصر الجديد؛ فالأخيرة، الدولة الأكثر اكتظاظًا بالسكان والتي يزيد عدد سكانها عن 230 مليون نسمة، تمارس نفوذًا ثقافيًا كبيرًا في جميع أنحاء المنطقة وعلى الصعيد الدولي.
يهيمن موسيقيوها على النوع الموسيقي العالمي الشهير المعروف باسم أفروبيتس، وتُشاهد أفلامها في جميع أنحاء القارة، وتؤثر اتجاهات الموضة الخاصة بها على العلامات التجارية العالمية.
فيما تتمتع جنوب أفريقيا، الاقتصاد الأكثر تصنيعًا في أفريقيا، بنفوذ ثقافي أقل نسبيًا في جميع أنحاء المنطقة. لكن لها ثقلًا جيوسياسيًا عالميًا أكبر من نيجيريا، نظرًا لأسواقها المالية الأقوى والأكثر رسوخًا، والتي يمكن أن تساعدها في جمع الأموال للاستثمار في جميع أنحاء المنطقة.
وتعد جنوب أفريقيا لاعبا عالميا مهما، كعضو في مجموعة العشرين وعضو مبكر في مجموعة البريكس إلى جانب البرازيل وروسيا والهند والصين.
ما إمكانية حدوث ذلك؟
تقول «فورين أفيرز»، إن الشراكة بين نيجيريا وجنوب أفريقيا ليست سابقةً من نوعها؛ ففي السنوات الأولى من القرن الحادي والعشرين، ساهم البلدان في إعادة تشكيل الأطر المؤسسية للقارة.
وتشارك رئيساهما آنذاك، النيجيري أولوسيجون أوباسانجو والجنوب أفريقي ثابو مبيكي، رؤيةً أفريقيةً شاملةً للدفع بـ«حلول أفريقية للمشاكل الأفريقية».
وفي عام 2002، دافعا عن استبدال منظمة الوحدة الأفريقية بالاتحاد الأفريقي، بتفويضٍ لتعميق التكامل الإقليمي – إدراكًا منهما أن الترابط الاقتصادي من شأنه أن يُسهم في الحفاظ على الوحدة.
من شأن تعزيز التكامل الاقتصادي أن يُمكّن القارة من التعامل مع نظام عالمي أكثر تفاعلية، وقد أثارت رسوم ترامب الجمركية دعوات في جنوب أفريقيا ونيجيريا لتعزيز العلاقات الثنائية والإقليمية لتعويض الخسارة المحتملة للسوق الأمريكية.
في أغسطس/آب الماضي، صرّح رئيس جنوب أفريقيا، سيريل رامافوزا، بأن بلاده ستسعى إلى التوسط في المزيد من الصفقات التجارية مع دول أخرى لتعويض تأثير رسوم واشنطن الجمركية البالغة 30% على صادرات جنوب أفريقيا.
وقد جمع وفد تجاري جنوب أفريقي لاحق إلى نيجيريا قادة الأعمال وصانعي السياسات من كلا البلدين لمناقشة فرص التعاون في القطاعات الرئيسية، بما في ذلك التعدين والتصنيع.
واتفق المشاركون على أن تعميق التجارة البينية الأفريقية من شأنه أن يُسهم في دفع عجلة التصنيع في جميع أنحاء القارة. ويُتوقع أن يُمثل هذا اقتراحًا جذابًا للشركات الجنوب أفريقية: إذ تُعدّ صادرات البلاد إلى القارة الأفريقية بالفعل ثلاثة أضعاف صادراتها إلى الولايات المتحدة.
كما أن نيجيريا أكثر ميلًا إلى تصدير سلع ذات قيمة مضافة أو مُصنّعة إلى دول أفريقية أخرى، مقارنةً بالسلع الخام التي تُصدّرها حاليًا إلى أوروبا والولايات المتحدة.
وبحسب «فورين أفيرز»، فإن القادة الحاليين في نيجيريا وجنوب أفريقيا على استعداد لدفع هذا التكامل الأعمق؛ ففي عهد رئيسها الحالي، بولا تينوبو، أظهرت نيجيريا طموحًا أكبر في سياستها الخارجية مما كانت عليه منذ ما يقرب من عقدين.
فعلى سبيل المثال، قادت استجابة المنطقة لانقلاب عام 2023 في النيجر، وحملت من أجل العضوية في مجموعتي العشرين والبريكس، وعززت شراكات اقتصادية مع دول رئيسية في الجنوب العالمي، ولا سيما البرازيل والهند.
كما دافع رامافوزا أيضًا عن قضايا قارية مثل مقعد دائم في مجموعة العشرين للاتحاد الأفريقي وزيادة التمويل العالمي للعلماء الأفارقة.
وإذا دمجت جنوب إفريقيا ونيجيريا نقاط قوتهما التكميلية، فيمكنهما ممارسة قوة اقتصادية أكبر وإحياء التماسك القاري لتعزيز المصالح الوطنية والقومية الأفريقية، تقول الصحيفة الأمريكية، مشيرة إلى أنهما معًا، يمكنهما حشد الدول الأفريقية وراء مواقف مشتركة بشأن سياسة المناخ والتجارة والأمن الإقليمي، مما يعزز النفوذ الجيوسياسي للقارة.
واختتمت «فورين أفيرز»، تقريرها، قائلة إنه إذا أدركت نيجيريا وجنوب أفريقيا نقاط قوتهما التكاملية، فسيمكنهما قيادة أفريقيا إلى عصر جديد.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز




