معركة بلا بنادق في مالي.. الإرهاب يحاصر «الشرايين الخاوية»

لم يعد الإرهاب في مالي يأتي من فوهات البنادق، بل من أنابيب الوقود. حصار متشدد حوّل البنزين إلى سلاح، والطرقات إلى جبهات صامتة.
في بلد أنهكته الحروب والانقلابات، لم يعد الإرهاب يأتي من فوهات البنادق، بل من أنابيب الوقود. حصار متشدد حوّل البنزين إلى سلاح، والطرقات إلى جبهات صامتة.
ففي قلب صحراء مالي يتبدّل شكل المعركة. لم يعد الهدف ثكنة أو موقعًا عسكريًا، بل خزان وقود يعيل مدينة بأكملها. التنظيمات الإرهابية قطعت شرايين الإمداد بين كايس وسيغو، وأحرقت الشاحنات على الطرق الدولية، بينما تحولت محطات باماكو إلى خطوط انتظار يختبر فيها الناس معنى الصمود المدني في مواجهة «إرهاب اقتصادي» يضرب بلا صوت.
وفقاً لتقارير صحفية محلية، قطع الإرهابيون طرق الإمداد وأحرقوا شاحنات نقل الوقود في مناطق كايس وسيغو، ما أدى إلى توقف حركة النقل وتعطل الإمدادات الحيوية. كما أدى الخوف من الهجمات إلى احتجاز عشرات الشاحنات عند الحدود السنغالية، لا سيما في منطقة ديبولي، حيث ينتظر السائقون تحسن الوضع الأمني، بحسب إذاعة «إر.إف.إي» الفرنسية.
لكن باماكو ردت بعقيدة جديدة: حماية الوقود كحماية السيادة. فالقوافل التي دخلت العاصمة تحت حراسة الجيش لم تكن مجرد شاحنات، بل رسائل تقول إن الدولة ما زالت على قيد الإرادة. ومع إنشاء مخازن استراتيجية وملاحقة تجار السوق السوداء، خاضت مالي حربها على جبهتين — ضد الإرهاب وضد الانهيار — لتثبت أن المعركة لم تعد على الأرض فقط، بل على النفس الطويل للاقتصاد الوطني.
فهل تعبر مالي هذه الأزمة؟
رأى مراقبون أن مالي تواجه اليوم حربًا غير تقليدية، إذ يستهدف المسلحون البنية الاقتصادية أكثر من الجبهات العسكرية.
وبحسب المراقبين، فإن ما تشهده مالي هو محاولة لخنق الدولة اقتصاديًا عبر استهداف قطاع الطاقة الحيوي، بعد أن نجحت القوات الحكومية في استعادة السيطرة على عدد من المناطق التي كانت تشهد نشاطاً للمجموعات المسلحة.
وبينما تتهم الحكومة هذه الجماعات بـ«تنفيذ أجندة تخريبية ضد الشعب»، تؤكد أنها لن تتراجع عن خطتها لبسط الأمن وضمان الخدمات الأساسية.
ويقول أستاذ العلوم السياسية، المتخصص في الإسلام السياسي والديمقراطية وتقويم أثر العنف الإرهابي على بناء الدولة في منطقة الساحل، منها مالي لـ«العين الإخبارية» إن ما يحدث في مالي هو شكل جديد من أشكال الحرب غير المتكافئة، موضحاً أن المجموعات الإرهابية لم تعد تهاجم الثكنات فحسب، بل تحاول ضرب الاقتصاد والبنية التحتية لخلق حالة من الفوضى والضغط الشعبي على الحكومة.
ورأى أن استجابة السلطات عبر تأمين القوافل وإدارة الأزمة بسرعة «تعكس قدرة متزايدة للدولة على الصمود».
أما الخبير السياسي الأفريقي إساكا ك. سواريه الباحث المشارك في برنامج الساحل وغرب إفريقيا بمنظمة SIPRI، والمختص في تحليل النزاعات وحوكمة السلم في أفريقيا، عبدالرحمن ادريسا فقال لـ«العين الإخبارية»، إن هذه الأزمة أظهرت أن الدولة في مالي ما زالت متماسكة رغم التحديات.
وأوضح أن الحكومة تعاملت بحزم مع محاولات الإرهاب لخنق البلاد اقتصاديًا، وأثبتت أن الأمن الغذائي والطاقي جزء لا يتجزأ من معركة السيادة الوطنية.
سواريه أضاف أن مواجهة الإرهاب لا تتعلق فقط بالسلاح، بل أيضًا بحماية الاقتصاد وضمان استمرار الخدمات للمواطنين، مشيدًا بجهود الجيش في تأمين طرق الإمداد «رغم المخاطر الكبيرة».
أزمة مركبة واستجابة حازمة
وأشار إلى أنه رغم وصول القوافل الجديدة، لا تزال بعض المناطق الداخلية، مثل موبتي وكيتا ونورو، تعاني من انقطاع شبه كامل في الإمدادات، ما أدى إلى توقف المولدات الكهربائية وارتفاع أسعار النقل بشكل قياسي.
لكن السلطات تؤكد أن الأزمة «قيد السيطرة»، وأن الخطط الجديدة ستمنع تكرار مثل هذا الحصار مستقبلاً.
وأطلقت السلطات الانتقالية في مالي، سلسلة إجراءات عاجلة لتخفيف تداعيات الأزمة؛ ففي السابع من أكتوبر/تشرين الأول الجاري، بث التلفزيون الرسمي لقطات لوصول قافلة تضم أكثر من 300 شاحنة وقود إلى باماكو تحت حماية الجيش، في مشهد وصفه المواطنون بأنه «جرعة أوكسجين» أعادت الأمل إلى الشوارع.
وقال سومييلا دجيتايه، نائب مدير التجارة في مالي: «لدينا احتياطي كافٍ من الوقود لتزويد السوق المحلية خلال الأيام المقبلة، ونعمل على تأمين الإمدادات بشكل مستمر».
كما قررت الحكومة إنشاء مخازن استراتيجية في الأقاليم الداخلية، وتشديد الرقابة على الأسعار، وملاحقة المتاجرين بالوقود في السوق السوداء الذين استغلوا الأزمة لرفع الأسعار إلى أكثر من 1500 فرنك إفريقي للتر الواحد.
وفي بيان صادر عن وزارة الطاقة، شددت الحكومة على أن الأمن والاستقرار الاقتصادي خط أحمر، وأنها ستواصل «تأمين كل شبر من أراضيها ضد الإرهاب الاقتصادي الذي يستهدف الشعب والدولة».
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=
جزيرة ام اند امز