أزمة التعليم في أوروبا.. بين ارتفاع الرسوم وتراجع الكفاءة

تعيش أوروبا في السنوات الأخيرة على وقع أزمة متصاعدة في قطاع التعليم، أزمة لم تعد مجرد ملاحظات سطحية أو نتائج عابرة، بل تحولت إلى ظاهرة بنيوية تضرب الأساس الذي بنت عليه القارة العجوز قوتها عبر عقود.
لطالما كان التعليم هو رهان أوروبا الاستراتيجي على المستقبل، إذ وفّر الكفاءات وأنتج العلماء وروّاد الابتكار الذين صنعوا مكانتها العالمية. غير أنّ المشهد الراهن يبدو قاتمًا، حيث يتراجع مستوى الجودة بشكل ملحوظ في مختلف المراحل التعليمية، بالتوازي مع ارتفاع غير مسبوق في الرسوم الجامعية، ما يضع الطلاب تحت ضغوط مالية متزايدة من دون أن يجدوا مقابلًا حقيقيًا في تحسين المحتوى أو طرق التدريس.
هذا التراجع لا يقتصر على المدارس الابتدائية أو الثانوية، بل يمتد بوضوح إلى الجامعات، التي تُعتبر تقليديًا قاطرة البحث العلمي ومختبرات الأفكار الكبرى في القارة. وهنا تكمن المفارقة: بينما يتحمل الطلاب أعباء مالية أكبر من أي وقت مضى، فإن نوعية التعليم لا تشهد أي قفزة نوعية، بل تسجل انحدارًا مقلقًا.
تقرير مجلة Social Europe بعنوان “Europe’s education gamble: Can the EU compete in a changing world”، الصادر في يناير 2025 ، عبّر بدقة عن هذا الوضع، مشيرًا إلى أن أنظمة التعليم في الاتحاد الأوروبي تعاني من تباينات صارخة بين بلد وآخر، وأن الفجوة في الأداء والجودة وعدم المساواة تتسع عامًا بعد عام.
انخفاض الأداء في التعليم الأساسي
يبدو التعليم الأساسي اليوم في قلب العاصفة. فقد كشف تقرير “Education and Training Monitor 2024″، الذي صدر عن الاتحاد الأوروبي خلال يوم التعليم للمناخ 2024، عن صورة صادمة لمستوى الطلاب الأوروبيين بعمر الخامسة عشرة.
الأرقام أظهرت أن مستويات القراءة والرياضيات والعلوم انخفضت إلى درجات غير مسبوقة، وهو تراجع تاريخي لم تشهده أوروبا حتى في أصعب الفترات. الأزمات التي صاحبت جائحة كوفيد-19، وعلى رأسها إغلاق المدارس لفترات طويلة، كانت بمثابة ضربة قاصمة، إذ عمّقت الفجوات بين الطلاب وزادت من ضعف المهارات الأساسية.
تشير البيانات إلى أن ثلث الطلاب باتوا عاجزين عن إجراء حسابات رياضية بسيطة، فيما يعاني ربعهم من ضعف في القراءة والعلوم، وهذه ليست مجرد مشكلة معرفية بل أزمة حضارية. الأكثر خطورة أنّ الخلفيات الاجتماعية والاقتصادية باتت تحدد بشكل مباشر فرص النجاح أو الفشل؛ فالشباب القادمون من بيئات محرومة لديهم احتمالية أكبر بالفشل بمعدل يزيد عن ستة أضعاف مقارنة بأقرانهم الميسورين. هذه الحقائق تضع أوروبا أمام مأزق مزدوج: تراجع في الأداء العام من جهة، واتساع في فجوة العدالة التعليمية من جهة أخرى.
وإذا وضعنا نتائج PISA 2022 في الاعتبار، نجد أن نحو 30% من الطلاب الأوروبيين غير قادرين على بلوغ الحد الأدنى من الكفاءة في الرياضيات، و25% في القراءة والعلوم. هذا يعني أن أجيالًا كاملة قد تدخل سوق العمل بمهارات ناقصة لا تتوافق مع متطلبات الاقتصاد الحديث.
والأدهى أن مقارنة هذه النتائج مع أداء دول آسيوية مثل سنغافورة وتايوان وهونغ كونغ وماكاو تجعل الفجوة أكثر وضوحًا؛ إذ إن هذه الدول لا تحقق فقط مستويات متقدمة، بل تحافظ على استقرار تصاعدي منذ سنوات، في حين تسير أوروبا في منحنى تنازلي منذ عام 2018.
الأزمة المالية. تهدد الجامعات
إذا كان التعليم الأساسي يعاني من انهيار في المهارات، فإن التعليم العالي يواجه معضلة أخرى لا تقل خطورة: أزمة التمويل وارتفاع الرسوم. ففي إنجلترا، على سبيل المثال، أعلنت الحكومة في نوفمبر 2024 عن زيادة في الرسوم الجامعية بنسبة 3.1% لتصل إلى 9,535 جنيهًا إسترلينيًا سنويًا بدءًا من خريف 2025، وهي أول زيادة منذ عام 2017. للوهلة الأولى قد يبدو هذا الرقم محدودًا، لكنه يأتي في وقت حساس تعيش فيه الجامعات أزمة مالية خانقة، بعدما تراجعت القيمة الحقيقية للرسوم بنسبة 26% منذ 2017 نتيجة التضخم.
تحليل مجموعة راسل أشار بوضوح إلى أن الرسوم الحالية لا تمثل سوى ثلثي قيمتها الفعلية قبل أعوام قليلة، ما وضع المؤسسات الجامعية في مأزق وجودي. النتيجة المباشرة لذلك كانت إعلان أكثر من سبعين جامعة عن خطط لإعادة الهيكلة وتسريح الموظفين، في محاولة للتأقلم مع الضغوط المتزايدة. الجامعات، التي لطالما كانت مراكز للإشعاع الفكري والعلمي، تجد نفسها اليوم مضطرة للتفكير بمنطق تجاري بحت: خفض النفقات، والاعتماد المفرط على الطلاب الأجانب الذين يدفعون رسومًا مضاعفة تتجاوز عشرين ألف جنيه إسترليني. لكن حتى هذا الخيار بات محفوفًا بالمخاطر، إذ أدت القيود الجديدة على التأشيرات إلى تراجع أعداد المسجلين الدوليين، ما ينذر بمزيد من الأزمات المالية.
وعلى المستوى الأوروبي الأوسع، تُظهر التجارب أن الرسوم لا تكون دائمًا أداة فعالة لضمان الاستدامة المالية. ففي ألمانيا مثلًا، حين فُرضت الرسوم بين عامي 2006 و2014، لم يكن تأثيرها على نسب التسجيل إلا محدودًا، وحين أُلغيت لاحقًا لم ينعكس ذلك على فرص الوصول إلى التعليم بشكل ملموس. أما في سويسرا، فقد بيّن تقرير أبيض صادر عن مركز E4S في فبراير 2025 أن زيادة الرسوم قد تدفع الطلاب إلى بذل جهد أكبر وتسريع إكمال دراستهم، لكنها في المقابل تزيد من الضغوط الاقتصادية وتفاقم عدم المساواة، خاصة عندما لا ترافقها مساعدات مالية كافية للفئات الأكثر هشاشة.
انخفاض الكفاءة وفجوات الابتكار
التعليم العالي في أوروبا يعاني من مشكلة أعمق من الرسوم والتمويل، وهي مشكلة الكفاءة والفجوة المتزايدة في مجال الابتكار. فحتى مع استثمارات ضخمة مثل برنامج إيراسموس+ الذي خصص أكثر من خمسة مليارات يورو، لا تزال الجامعات الأمريكية أكثر قدرة على جذب العقول المتميزة، في حين تتقدم الصين بخطى واسعة عبر دعم حكومي مباشر لجامعاتها ومراكزها البحثية.
الأرقام تكشف عن فجوة مؤلمة في الاستثمار في الابتكار. ففي حين لا تتجاوز نسبة استثمارات رأس المال المغامر في أوروبا 0.2% من الناتج المحلي الإجمالي، تصل النسبة في الولايات المتحدة إلى 0.7%. هذا الفارق يفسر جزئيًا لماذا تحتفظ أمريكا بتفوقها في مجالات التكنولوجيا والعلوم التطبيقية، بينما تبدو أوروبا وكأنها تراوح مكانها.
وفي إنجلترا، أظهر تراجع التمويل لكل طالب من 12 ألف جنيه في عام 2012 إلى 9,600 جنيه في عام 2023 أثرًا مباشرًا على جودة التدريس والبحث العلمي. الجامعات التي كانت تُعرف بتميزها بدأت تفقد بريقها، وبعضها بات مهددًا بالإغلاق أو الاندماج، وهو ما يعني خسارة مدن كاملة لمصادر توظيفها الرئيسية، إذ إن الجامعات في كثير من المناطق الأوروبية تشكّل محركًا اقتصاديًا ومصدرًا رئيسيًا للوظائف.
الجهود الأوروبية للإصلاح
رغم هذه الصورة القاتمة، لا يمكن القول إن الاتحاد الأوروبي يقف مكتوف الأيدي. لجنة فون دير لاين، التي باشرت ولايتها في ديسمبر 2024، أطلقت مبادرات إصلاحية طموحة، أبرزها مشروع “اتحاد المهارات”، الذي يركز على التعليم مدى الحياة، وتطوير مهارات المعلمين، والاعتراف المتبادل بالشهادات بين الدول الأعضاء. كما أطلقت خطة STEM الاستراتيجية التي تهدف إلى معالجة التراجع في مجالات الرياضيات والعلوم والتكنولوجيا، مع منح النساء فرصًا أوسع لدخول هذه التخصصات، التي لطالما عانت من نقص في التنوع.
إلى جانب ذلك، يجري العمل على توسيع نطاق التعليم المهني ليواكب احتياجات سوق العمل، عبر مبادرات مثل Skills Portability Initiative وإطار الدرجة الأوروبية، التي تهدف إلى جعل المهارات أكثر قابلية للنقل بين الدول المختلفة. لكن تقارير متخصصة، مثل تقرير ماريو دراغي عن مستقبل التنافسية الأوروبية، تحذر من أن هذه الجهود قد تبقى مجرد شعارات إذا لم ترافقها استثمارات هيكلية جادة تضمن حق التعليم والتدريب لكل العاملين، مع التركيز بشكل خاص على المناطق المهمشة التي تعاني من نزيف الهجرة الداخلية.
وفي إطار Education and Training Monitor 2024، أطلق الاتحاد مبادرة “Pathways to School Success”، التي تهدف إلى تحسين النتائج التعليمية عبر خطة عمل تمتد من 2024 إلى 2029، تركز على المهارات الأساسية باعتبارها المدخل الرئيسي لإصلاح عميق ومستدام.
رهان أوروبا على التعليم
تبدو أزمة التعليم في أوروبا وكأنها اختبار وجودي. فالتراجع في الجودة، وارتفاع الرسوم، واتساع فجوات الكفاءة والابتكار، ليست مجرد تحديات قطاعية، بل تهديدات استراتيجية لمستقبل القارة ككل. وإذا كان برنامج إيراسموس+ وخطط الاتحاد الأوروبي المختلفة يمثلان بارقة أمل، فإن حجم الفجوات القائمة في التمويل والعدالة والاستثمار يفرض إصلاحات جذرية لا تقبل التأجيل.
في إنجلترا، قد تكون زيادة الرسوم الجامعية مجرد محاولة أولى لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، لكنها غير كافية وحدها لوقف النزيف. وعلى المستوى الأوروبي الأوسع، فإن الرهان الحقيقي يكمن في الجمع بين العدالة الاجتماعية والقدرة التنافسية، بحيث يصبح التعليم مشروعًا مستدامًا يعزز تماسك القارة ويعيد لها مكانتها العالمية. الأمر يحتاج إلى إرادة سياسية قوية، واستثمارات استراتيجية طويلة الأمد، لأن أي تهاون في هذا الملف لن يعني سوى خسارة أوروبا لرهانها الأهم: الإنسان.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز