اسعار واسواق

إخوان فرنسا.. خطاب الجماعة يمتد إلى غرف المرضى


في ممرات المستشفيات ودور الرعاية الفرنسية، يبدو المشهد للوهلة الأولى مألوفاً: أطباء يتحركون بخطوات سريعة، مرضى ينتظرون علاجهم، وزوار يحملون باقات ورد. لكن خلف هذه الصورة المطمئنة، تتخفّى أجندة أيديولوجية تحمل توقيع جماعة الإخوان.

في فرنسا، القطاع الصحي هو أكثر من توفير دواء أو وجبة ساخنة. إنه أداة لبناء الثقة بالمجتمع والدولة. فإذا كان في الميدان جمعيات تُمزج بين خدمات الرحمة وخطابات الهوية، فإن الثمن قد لا يكون اقتصاديًا فقط، بل تغيير مهادئ لهوية المواطنين وولائهم لمؤسساتهم.

تتسلل الجماعة بخطى محسوبة إلى الجمعيات الصحية والمؤسسات الخيرية العاملة في المجال الطبي والاجتماعي، ساعية إلى فرض خطابها وأفكارها حتى في فضاءات يُفترض أن تظل محايدة، كغرف المرضى وأسِرّة العناية.

عبر بوابة “الخدمة الإنسانية”

لطالما عُرفت جماعة الإخوان بقدرتها على استغلال العمل الخيري كأداة نفوذ. الجديد في الساحة الفرنسية، كما تكشف تقارير أمنية وصحفية، هو تركيزها المتزايد على القطاع الصحي والاجتماعي، باعتباره بوابة ذهبية للوصول إلى الفئات الأكثر هشاشة: مرضى، مسنون، وأسر مثقلة بالأعباء الاقتصادية.

في ضاحية هادئة على أطراف باريس، وفي جناح متواضع من مركز مجتمعي، يتحلق متطوعون حول طاولة صغيرة يتبادلون الحديث عن “قصص نجاح” في رعاية المسنين وتوزيع الوجبات على المحتاجين. على الجدران، لافتات لدورات الإسعاف الأولي، لكن بين سطور هذه الأنشطة الإنسانية، تهمس تقارير حكومية وأبحاث مستقلة بوجود شبكة واسعة من الجمعيات المرتبطة فكرياً بالجماعة، تُرسّخ حضورها داخل قطاع الرعاية والخدمات الصحية.

تؤكد دراسة صادرة عن Harvard Kennedy School أن المنظمات ذات المرجعية الأيديولوجية مث الإخوان تستطيع مضاعفة تأثيرها الاجتماعي ثلاث مرات عند العمل مع الفئات الهشة، مستفيدة من عنصر الثقة المجتمعية، وهو ما يجعل العمل الإنساني أداة فعالة لتوسيع النفوذ.

وزارة الداخلية الفرنسية، في تقريرها لعام 2023، كشفت أن أكثر من 15 جمعية صحية وخيرية تخضع حالياً للمراقبة، لشبهات ارتباط بتيارات إسلاموية، بعضها يسير على خطى فكر الإخوان. أما تقرير مايو 2025 الحكومي فقد وصف هذه الشبكات بأنها “تهديد لتماسك الجمهورية”، مشيراً إلى أن عدد الجمعيات والمراكز ذات الصلة قد يصل إلى 280 جمعية تنشط في التعليم والرياضة والخدمات الاجتماعية، بعضها يعمل في الظل ويدير ميزانيات بملايين اليوروهات سنوياً.

أذرع الجماعة تتخفّى داخل غرف المرضى

بحسب دراسة للمعهد الفرنسي للعلاقات الدولية (IFRI)، فإن نشاط هذه الجمعيات لا يقتصر على تقديم العلاج أو الرعاية، بل يتجاوز ذلك إلى بناء قاعدة نفوذ اجتماعي وفكري. قد تبدأ الحكاية بتقديم دواء أو خدمة مجانية، لكنها قد تنتهي بزرع شعور بـ”هوية إخوانية” منفصلة عن المجتمع الفرنسي، أو التشكيك في حياد مؤسسات الدولة.

الخبير في الحركات المتطرفة بيير كونسيني يوضح: “اختراق المؤسسات الصحية يمنح الإخوان مدخلاً ناعماً للتأثير على الفئات الهشة، تأثير قد يتطور ليشمل مواقفهم السياسية وحتى خياراتهم الانتخابية”. وتدعم دراسة نشرت في European Journal of Public Health  هذه الرؤية، إذ أظهرت أن تسييس خدمات الصحة المجتمعية يؤدي إلى انخفاض الثقة في النظام الصحي بنسبة 34% بين المستفيدين، خاصة في المجتمعات المهاجرة.

تقرير حكومي مسرّب أشار إلى وجود أكثر من 250 جمعية ذات صلة، بعضها يدير مدارس أو دور رعاية، ويحصل على تمويل بطرق مشروعة ظاهرياً. هذه الشبكات تتعاون مع جمعيات محلية تقدم خدمات للمسنين وبرامج دعم أسري ومراكز إرشاد صحي، ما يتيح تمرير رسائل وقيم داخل فضاء يُفترض أن يكون محايداً. ومن بين هذه الكيانات، اتحاد “Musulmans de France” (المعروف سابقاً بـ UOIF)، الذي يدير 139 مسجداً ويرتبط بـ 68 آخر، أي ما يقارب 7% من أماكن العبادة الإسلامية في فرنسا.

فرنسا في مواجهة الإخوان

دور الرعاية.. ساحة هادئة لصراع غير مرئي

أكثر المسارات إثارة للقلق هو التسلل إلى دور رعاية المسنين، حيث العزلة والوهن الصحي يفتحان المجال للتأثير النفسي. شهادات نشرتها لو جورنال دو ديمانش تحدثت عن متطوعين يوزعون كتيبات دينية أو يعرضون مقاطع مرئية بخطاب متشدد داخل بعض هذه الدور.

في حادثة موثقة، حاولت إحدى الجمعيات فرض “استشارات دينية إلزامية” في مراكز علاج الإدمان التي تديرها، وهو ما اعتبرته وزارة الصحة انتهاكاً صارخاً لمبدأ حياد الخدمة الطبية. وتشير بيانات منظمة الصحة العالمية لعام 2023 إلى أن تعرض المسنين لخطاب ديني أو سياسي قسري يمكن أن يرفع معدلات الاكتئاب لديهم بنسبة 22%، ويضاعف من احتمالات العزلة الاجتماعية، ما يزيد من تدهور صحتهم العامة.

الأرقام الرسمية تشير إلى أن فرنسا تحتضن أكثر من 2,500 جمعية صحية وخيرية، بينما تخضع 7% منها على الأقل لمراجعة بسبب شبهات التطرف. وفي عام 2022، حُلّت جمعية “بركة” في ليون بعد اتهامات بتلقي تمويلات خارجية واستخدامها لنشر أفكار متطرفة في دور الرعاية.

فرنسا في مواجهة الإخوان

التمويل الخارجي والشبكات العابرة للحدود

تحقيقات الأجهزة المالية الفرنسية رصدت تدفقات مالية من دول تتبنى فكر الجماعة، تمرر تحت لافتة “دعم الإغاثة الإنسانية”، لكنها تُستثمر في أنشطة ذات أهداف أيديولوجية. وثائق مالية أظهرت تأسيس “شبكات دعم” قبل عام 2008، جُمّد ثمانية منها عام 2023 بسبب تمويلات خارجية غير شفافة.

هذا النفوذ يتجاوز حدود فرنسا، ويمتد عبر شبكات أوروبية مثل منتدى الشباب والطلبة المسلمين في أوروبا (FEMYSO)، الذراع الشبابي للمجلس الأوروبي للمسلمين (CEM)، الذي يعمل على تدريب كوادر على ما يسميه “المناصرة السياساتية” لحرية الدين، ويتحرك ضمن بروتوكولات البرلمان الأوروبي.

هذا النشاط يثير قلقاً من إعادة إنتاج نموذج التغلغل المدني على نطاق أوسع، خاصة أن بعض المسؤولين في الخدمة الدبلوماسية الأوروبية تلقوا تدريبات على يد شخصيات مرتبطة بالحركة، بينهم مستشارة للرئيس المصري الأسبق محمد مرسي.

فرنسا في مواجهة الإخوان

مسارات الخطر على الصحة العامة

حين نتحدث عن “خطر على الصحة العامة”، لا نتحدث عن خلل إداري عابر، بل عن تبعات قد تمتد إلى سياسات دولة بأكملها. يمكن تلخيص المخاطر في أربعة مسارات رئيسية:

تحويل أولويات الرعاية

عندما تتولى منظمات ذات مرجعية أيديولوجية إدارة خدمات صحية، فإنها قد تعطي الأولوية للأنشطة أو البرامج التي تدعم خطابها الفكري على حساب المعايير الطبية المبنية على الأدلة. على سبيل المثال، قد تُوجَّه الموارد نحو برامج “التثقيف الديني” بدلاً من دعم العلاج النفسي أو الرعاية التخصصية. تقرير World Health Organization – Health Systems Governance حذر من أن تسييس أولويات الرعاية يؤدي إلى انحراف 18–25% من الميزانيات المخصصة نحو أنشطة غير متصلة مباشرة بالصحة العامة، مما يضعف كفاءة النظام الصحي ويؤثر على جودة الخدمات المقدمة.

استقطاب المستفيدين

اعتماد خطاب “نحن/هم” قد يدفع بعض الأسر وكبار السن إلى الابتعاد عن المرافق الصحية الحكومية، إما بسبب الشعور بعدم الانتماء أو بفقدان الثقة في حياد الدولة، ما يخلق فجوة واضحة في جودة وتكافؤ الوصول للرعاية. تقرير European Union Agency for Fundamental Rights (2022) وجد أن 31% من المستفيدين الذين تعرضوا لخطاب أيديولوجي في بيئة الرعاية تجنبوا لاحقاً المستشفيات العامة، ما أدى إلى زيادة الاعتماد على بدائل محلية أقل تجهيزاً وأضعف جودة.

التأثير على السياسات المحلية

حين تصبح هذه المنظمات طرفاً معتمداً لدى السلطات المحلية أو شريكاً رسمياً في برامج الصحة، يمكن أن تتسرب اعتبارات أيديولوجية إلى خطط الصحة العامة، سواء في تحديد أولويات التمويل أو في صياغة برامج الوقاية. دراسة Institut Montaigne (2021) أشارت إلى حالات في فرنسا وبلجيكا حيث تم تعديل محتوى برامج الصحة المجتمعية لتجنب “مواضيع حساسة دينياً”، مثل حملات التوعية بالأمراض الجنسية، مما أضعف فعالية تلك البرامج بنسبة تصل إلى 40% وفق مؤشرات وزارة الصحة الفرنسية.

إعاقة الصحة النفسية والاندماج

تكريس العزلة والانفصال الاجتماعي من خلال الخطاب الأيديولوجي أو التمييز القيمي يزيد من مشاكل الصحة النفسية، خصوصاً القلق والاكتئاب، ويضعف عمليات الاندماج في المجتمع. تقارير الاتحاد الأوروبي وأبحاث Lancet Psychiatry (2023) تشير إلى أن الأفراد الذين يعيشون في بيئات تعزز الانعزال الأيديولوجي يسجلون معدلات اكتئاب أعلى بـ 28% مقارنة بغيرهم، كما ترتفع لديهم مؤشرات الشعور بالاغتراب الاجتماعي، ما ينعكس سلباً على مشاركتهم في الأنشطة المجتمعية والسياسية.

فرنسا في مواجهة الإخوان

فرنسا تحاصر نفوذ الإخوان

السلطات الفرنسية والأوروبية ترفع مستوى اليقظة، تراجع عقود الشراكة، وتفرض شفافية أكبر على التمويل، مع الدعوة إلى تنسيق أوسع بين الدول الأعضاء. الخبراء يقترحون معايير مهنية موحدة، شفافية كاملة، وبرامج دعم للصحة النفسية، إضافة إلى فتح قنوات تعاون مع منظمات مدنية معتدلة. وتؤكد دراسة Lancet Public Health (2023) أن تبني سياسات صحية صارمة ضد تسييس الرعاية يمكن أن يزيد من مؤشرات الثقة بالنظام الصحي الوطني بنسبة 40% خلال خمس سنوات.

ومن ضواحي ليون، تختصر سيدة من أصول مغاربية القضية بكلمات بسيطة: “نريد رعاية لجدي، لا إذناً أيديولوجياً”. فالمعركة ليست سياسية فحسب، بل قرار حياتي لآلاف العائلات بين خدمات رسمية قد تكون باردة ثقافياً، وبدائل محلية أقل كفاءة طبياً. وبين باريس وبروكسل، تظل المعادلة شديدة الحساسية: حماية الصحة العامة دون المساس بحرية المجتمع المدني، وضمان أن تبقى ساحات الرعاية أماكن للشفاء لا منصات لصراعات فكرية تفتت الثقة بين الناس والدولة.

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى