اسعار واسواق

مقامرة وجودية.. الذكاء الاصطناعي يقترب من «الزر النووي»


لم يعد شبح يوم القيامة النووية حبيس غرف القيادة السرية أو شاشات الرادار، بل بات يتسلل عبر الشاشات الصغيرة، والهواتف الذكية، ومقاطع الفيديو التي قد لا تكون حقيقية أصلًا.

ففي عصر التزييف العميق والذكاء الاصطناعي، لم تعد الخديعة مجرد أداة دعائية، بل تحولت إلى خطر وجودي قادر على إشعال حرب نووية خلال دقائق.

وبينما تتسارع الدول الكبرى في دمج الذكاء الاصطناعي داخل بنيتها الأمنية والعسكرية، برز سؤال مصيري، أثاره تحليل لـ«فورين أفيرز» حول أنظمة الإنذار النووي، المصممة لعصر الحرب الباردة، ومدى قدرتها عن التمييز بين الهجوم الحقيقي والوهم المصنّع رقميًا.

من خطأ بشري إلى خديعة رقمية

ومنذ فجر العصر النووي، شكّلت الأخطاء وسوء التقدير هاجسًا دائمًا لصنّاع القرار. فحادثة عام 1983، حين كاد إنذار سوفياتي كاذب أن يطلق ردًا نوويًا شاملًا، لا تزال شاهدًا حيًا على هشاشة الأنظمة أمام المعلومات المضللة، حتى في غياب الذكاء الاصطناعي.

آنذاك، أنقذ تقدير فردي من ضابط مناوب العالم من كارثة لا رجعة فيها.

اليوم، لم يعد الخطر محصورًا في عطل تقني أو قراءة خاطئة، بل بات مرتبطًا بقدرة الخوارزميات على إنتاج «واقع بديل» يبدو مقنعًا إلى حد القتل الجماعي.

الذكاء الاصطناعي داخل الحلقة النووية

وتؤكد الولايات المتحدة، رسميًا، أن البشر سيظلون أصحاب القرار النهائي في أي استخدام للسلاح النووي.

وتنص استراتيجيتها الدفاعية على إبقاء «الإنسان داخل حلقة القرار».

كما أبدت واشنطن وبكين توافقًا مبدئيًا على مبدأ التحكم البشري. غير أن هذا الالتزام يظل هشًا ما دامت المراحل المبكرة لصنع القرار – أي تفسير الإنذارات، وتحليل المعطيات، وبناء السياق السياسي والعسكري – تُغذّى ببيانات قد تكون ملوثة أو مصنّعة آليًا.

الخطر الحقيقي لا يكمن في زر الإطلاق، بل في اللحظة التي تسبق اتخاذ القرار، حين تتدفق المعلومات بسرعة تفوق قدرة البشر على التحقق، ويُطلب من القائد أن يثق بما يراه ويسمعه.

التزييف العميق كسلاح استراتيجي

التزييف العميق لم يعد سيناريو افتراضيًا. فقد استُخدم بالفعل لتزييف خطابات رؤساء، وإعلانات تعبئة، ورسائل استسلام.

ومع تطور هذه التقنيات، يصبح من الممكن إقناع قائد دولة نووية بأن هجومًا قد بدأ، أو أن خصمًا أعلن الحرب، أو أن انفجارًا إشعاعيًا وقع داخل أراضيه.

وفي عالم تُقاس فيه قرارات الرد النووي بالدقائق، قد يكون الفارق بين الفيديو الحقيقي والمزيّف هو الفارق بين البقاء والفناء.

أزمات متسلسلة وسلسلة قرارات مضغوطة

تعتمد العقيدة النووية الأمريكية، كما الروسية، على جاهزية الإطلاق السريع عند الإنذار. وهذا يعني أن القائد الأعلى يملك نافذة زمنية ضيقة للغاية لاتخاذ قرار مصيري.

في هذا السياق، يمكن للتزييف العميق أو لتحليل خاطئ مدعوم بالذكاء الاصطناعي أن يخلق سلسلة أزمات متتابعة، تبدأ بإنذار، ثم بتفسير مغلوط، ثم بتصعيد لا يمكن احتواؤه.

ويزداد الخطر حين تُستخدم أنظمة ذكاء اصطناعي لدمج مصادر معلومات متعددة، إذ قد تنتج «هلوسة تحليلية» تبدو منطقية لكنها تستند إلى فرضيات خاطئة. والأسوأ أن من يملك معرفة جزئية بالذكاء الاصطناعي يميل إلى الثقة بنتائجه، بدل التشكيك فيها.

حدود الذكاء الاصطناعي في المجال النووي

رغم الفوائد العسكرية الواسعة للذكاء الاصطناعي في مجالات الصيانة، والاستطلاع، والترجمة، وتحليل الصور، فإن أنظمة الإنذار النووي تظل مجالًا يجب أن يبقى محظورًا عليه.

فهذه الأنظمة تفتقر إلى بيانات تاريخية حقيقية عن هجمات نووية فعلية، ما يجعل تدريب الخوارزميات عليها محفوفًا بالافتراضات والبيانات الاصطناعية.

وفي غياب بيانات موثوقة، تصبح مخاطر الهلوسة والتقدير الخاطئ أعلى من أي مكسب محتمل في السرعة أو الكفاءة. إن استبدال العيون البشرية المدربة بخوارزميات غير قابلة للتفسير قد يحوّل الخطأ التقني إلى نهاية حضارية.

الحاجة إلى إعادة تعريف الردع

واليوم، يقف العالم عند مفترق طرق: روسيا تلوّح بالسلاح النووي، والصين توسّع ترسانتها، وكوريا الشمالية تعزز قدراتها العابرة للقارات، فيما تتآكل منظومات الحد من الانتشار.

في هذا المناخ، يصبح الحفاظ على القرار النووي في يد البشر ضرورة أخلاقية واستراتيجية، لا مجرد خيار سياسي.

كما أن تحديث السياسات النووية لم يعد ترفًا. فالنماذج التي صُممت لمواجهة صواريخ الحرب الباردة لم تكن تتوقع سيل المعلومات المضللة الذي يمكن أن يصل مباشرة إلى هواتف القادة.

نحو حصانة معلوماتية نووية

ووفق فورين أفيرز يتطلب الحد من هذه المخاطر بناء ثقافة شكّ منهجي داخل أجهزة الاستخبارات وصنع القرار، وتوحيد معايير الإفصاح عن المحتوى المولّد آليًا.

إضافة إلى تعزيز التدريب على التحقق من المعلومات غير القابلة للتأكيد الفوري.

كما يتطلب الأمر قنوات اتصال فعالة بين القوى النووية الكبرى، لا سيما بين واشنطن وبكين، لتفادي سوء الفهم في لحظات التوتر القصوى.

وخلص التحليل إلى أن لم يمنع الكوارث النووية في الماضي سوى الحكمة البشرية والحوار والدبلوماسية، وفي عصر الذكاء الاصطناعي، يصبح الدفاع عن الحقيقة شرطًا أساسيًا للدفاع عن الحياة نفسها.

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى