فرنسا في 2025.. 4 حكومات وبرلمان منقسم

سجّلت فرنسا في عام 2025 سلسلة هزّات سياسية عنيفة تسببت في تعاقب 4 حكومات خلال 12 شهرًا فقط.
وعكست الفوضى السياسية في باريس ما اعتبرته وسائل إعلام فرنسية أكثر صور تجلّي “الاستقطاب السياسي”، وسط تصدعات عميقة في تركيبة البرلمان.
لماذا يُعد ما جرى في 2025 استثنائيا؟
وبعد تجربة حكومات متعاقبة خلال عهد الرئيس إيمانويل ماكرون، بلغ التناوب الحكومي ذروته في 2025، حيث سقطت حكومة ميشيل بارنييه نهاية 2024، ثم حكومة فرانسوا بايرو التي سقطت إثر تصويت على الثقة، أعقبها تكليف سيباستيان لوكورنو بتشكيل حكومتين متتاليتين.
تسلسل عكس طبيعة الصراع حول السياسات الاقتصادية الجوهرية، من موازنة تقشفية إلى مطالب العدالة الضريبية، وبدا واضحًا أن البرلمان المنقسم بعد انتخابات مبكرة لا يمنح أي حكومة أغلبية مستقرة لتمرير مشاريعها الكبرى.
بداية مضطربة
تولى ميشيل بارنييه رئاسة الوزراء في خطوة اعتبرتها كثير من الصحف تغييرًا في اتجاه تحفّظي داخل قصر الإليزيه، لكنه واجه معارضة برلمانية حادة خصوصًا حول استخدام آليات دستورية لتمرير قوانين مالية وقضايا اجتماعية منذ أواخر 2024، وهو ما أعاد إحياء النقاش حول جدوى اللجوء إلى أدوات قوية مثل المادة 49.3 لفرض قرارات ميزانية مثيرة للجدل، وفقًا لمحطة “بي.إف.إم” التلفزيونية الفرنسية.
خطة تقشفية تسقط بتصويت حاسم
وجاء تعيين فرانسوا بايرو ليحمل خطة واضحة لخفض الإنفاق العام (نحو 44 مليار يورو)؛ لكن الضغوط السياسية والاجتماعية تزايدت.
وفي 8 سبتمبر/أيلول 2025 دعا بايرو الجمعية الوطنية لتصويت ثقة خسر فيه بفارق كبير (364 ضدًا مقابل 194 مؤيدًا)، ما أنهى حكومته فورًا وفتح الباب أمام تكليف بديل لقيادة البلاد.
استقال بايرو فورًا، في خطوة قالت عنها صحيفة “لوفيغارو” الفرنسية إنها “درس في مخاطرة الرهان على الانضباط البرلماني في ظل غياب أغلبية صريحة”.
وأُجبر ماكرون على إطلاق مشاورات سريعة لتشكيل حكومة جديدة.
حكومة لوكورنو الأولى
بعد استقالة بايرو، تم تعيين سيباستيان لوكورنو، سريعًا لقيادة الحكومة، إذ حاول لوكورنو التهدئة عبر فتح قنوات حوار مع البرلمان والنقابات، لكنه لم يحقق اختراقات كبيرة في أول حكومة له.
فشلت تشكيلته الأولى في تمرير تعديلات جوهرية، ما دفع إلى إعادة تشكيلها في أكتوبر/تشرين الأول الماضي، مع محاولة مفترضة لإطفاء حدة المواجهات عبر تبني خطاب “العدالة الضريبية” والابتعاد عن إجراءات مفاجئة لإعادة ضريبة الثروة، لكن الأزمة الأساسية — غياب أغلبية في الجمعية — بقيت حاضرة، بحسب ما نقلته صحيفة “لوموند” الفرنسية.
حكومة لوكورنو الثانية
لم تفلح الحكومة الأولى لسيباستيان لوكورنو في تمرير تعديلات الموازنة، ما دفع الرئيس ماكرون لإعادة تشكيلها في أكتوبر/تشرين الأول 2025، إلا أن الحكومة الجديدة ركزت على شعار “العدالة الضريبية” ورفض إعادة ضريبة الثروة، مع تبني نهج تدريجي لخفض العجز، كما شملت بعض التعديلات الوزارية لدعم هذا التوجه، كما ذكرت “لوموند” الفرنسية.
رفض موازنة 2026
وفي تطور دراماتيكي شهدته نهاية نوفمبر/تشرين الثاني 2025، رفضت الجمعية الوطنية وبأغلبية ساحقة جزء “الإيرادات” من مشروع موازنة 2026 (404 نواب صوّتوا ضدها)، ما أسقط المشروع برمته قبل بدء مناقشة النفقات.
وهذا الرفض، في سياق برلمان مجزأ وسياسات تقشف قاسية مقترحة، وضع الحكومة أمام مفترق طرق دستوري وسياسي بين محاولة التوافق في مجلس الشيوخ، واللجوء إلى المادة 49.3، أو اعتماد قانون خاص مؤقت لتحصيل الضرائب.
ومثّل قرار رفض الموازنة ذروة الأزمة، وأظهر أن الأجندة الاقتصادية للحكومة لا تجد قاعدة دعم برلماني واضحة، بحسب شبكة “فرانس 24” الإخبارية الفرنسية.
لماذا انهارت الحكومات الفرنسية خلال 2025؟
وفيما يتعلق بأسباب انهيار الحكومات الفرنسية خلال عام 2025، قال أستاذ العلوم السياسية الفرنسي برونو كورتييه المتخصص في شؤون الأحزاب، في تصريحات لـ”العين الإخبارية”، إن أحد أهم أسباب انهيار الحكومات المتعاقبة خلال 2025 هو الانقسامات داخل البرلمان، والانتخابات المبكرة التي دعا إليها ماكرون، والتي تركت فراغًا للأغلبية الرئاسية بعدما فقدت العديد من المقاعد.
وأوضح كورتييه أن البرلمان المنقسم على نفسه بعد حل مبكر أدى إلى تشكيل توازنات هشة؛ فلا يسار موحد، ولا يمين موحد، ووجود قوة قوية لليمين المتطرف وقوى يسارية متداخلة، كل ذلك حرم أي حكومة من أغلبية مريحة لتمرير سياسات مؤلمة.
والسبب الآخر في وجهة نظر الخبير الفرنسي يعود إلى استراتيجية اقتصادية متضاربة بين التقشف ونمط العدالة الضريبية، موضحًا أن كل حكومة حاولت تقديم وصفة مختلفة: تقشف سريع لتقليص الدين، أو سياسة ضرائب أكثر عدالة تستهدف الطبقات العليا. عدم وضوح الرؤية وغياب خطة نمو مقنعة زادا الشكوك بين نواب الوسط والمستقلين الذين يملكون أصوات الحسم.
وأشار الخبير الفرنسي إلى أن الخطوات المزمعة لخفض الإنفاق أو إلغاء مميزات مثل “عطل وطنية” واجهت رفضًا شعبيًا ونقابيًا، ما زاد مخاطر أي حكومة تسعى لتنفيذ خطة تقشفية دون تسويات اجتماعية مقنعة.
كما اعتبر كورتييه أن استعمال الأدوات الدستورية يعد سلاحًا ذا حدين، موضحًا أن المادة 49.3 سمحت بتمرير نصوص سابقة، لكنها أعادت إثارة نقاش حول شرعية القرار التنفيذي مقابل إرادة البرلمان، ومع كل استعمال لها تآكلت قاعدة دعم الحكومة في البرلمان والشارع.
السيناريوهات المحتملة للمرحلة المقبلة
أما عن السيناريوهات المحتملة للمرحلة المقبلة، فقد أشار الخبير الفرنسي إلى أن الحكومة أمام فرصة لتمرير الموازنة عبر تعديلات تفاوضية بمجلس الشيوخ، ما يعني قبول تنازلات لتأمين دعم برلماني أو على الأقل الامتناع عن التصويت في مجلس الشيوخ، ما يسمح بتمرير قانون معدل قبل نهاية العام الجاري. وهذا المسار متوقف على قدرة لوكورنو على توحيد الوسط وإقناع بعض فرق المعارضة الصغيرة بالموافقة.
السيناريو الآخر المقترح، فهو اللجوء إلى المادة 49.3 لتمرير قانون الموازنة، وهذا خيار سريع لكنه جسيم سياسيًا؛ يضمن تمرير النص لكنه يخاطر بإطلاق موجة استقالات برلمانية أو حركات احتجاج واسعة، ويضع الحكومة في موقع هش سياسيًا على المدى المتوسط.
السيناريو الثالث، وهو قانون خاص مؤقت لتحصيل الإيرادات مع استئناف النقاش مطلع العام، وهو إجراء اعتبره الخبير الفرنسي حلًّا وسطًا تقنيًا يسمح بتأمين الموارد مؤقتًا دون إقرار ميزانية كاملة، ويمنح وقتًا للمداولات والتوافق. قد يكون الأفضل تجنبًا للاحتقان السياسي لكنه يترك حالة عدم استقرار تشريعي لفترة أطول.
والسيناريو الأخير الذي وصفه كورتييه بالسيناريو الأسود، هو استقالة الحكومة والدعوة لانتخابات مبكرة، معتبرًا أن الانتخابات قد تبدد الشكوك إذا أنتجت أغلبية واضحة، لكنها قد تعمق الانقسام وتفضي إلى صعود قوى متطرفة أو مزيد من اللامبالاة السياسية.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA=
جزيرة ام اند امز




