اسعار واسواق

«ندفع ثمن أزمة الكبار».. مراهقات الدنمارك في اختبار التجنيد الإجباري


في بلدٍ اعتاد رؤية الفتيات في المقاهي وعلى الدراجات الهوائية أكثر من رؤيتهن في ساحات التدريب العسكري، تعيش الدنمارك اليوم لحظة انعطاف تاريخية.

فمع تصاعد «الهاجس الروسي» واتساع رقعة التوتر في شمال أوروبا، وجدت المراهقات الدنماركيات أنفسهن فجأة في قلب نقاش لم يكن يخطر لهن على بال: هل ستكون سنة بلوغهن الثامنة عشرة بوابة إلى الجامعة أم إلى ثكنة عسكرية؟

بين خوف معلن وأسئلة بلا أجوبة، بدأ جيل كامل يكتشف أنه بات جزءاً من معادلة أمنية كبرى تتجاوز أحلام المراهقة وخطط الإجازات.

فماذا حدث؟

دخل قانون التجنيد الجديد في الدنمارك حيّز التنفيذ في يوليو/تموز الماضي، موسعًا الخدمة العسكرية لتشمل النساء لأول مرة.

فبعد أن كان إلزامياً فقط للذكور، بات على جميع الفتيات اللواتي يبلغن 18 عاماً الخضوع للتجنيد، مع احتمال استدعائهن للخدمة العسكرية، التي تم تمديدها من أربعة أشهر إلى 11 شهراً.

ولم يُجبر أي شخص في الدنمارك على الخدمة منذ عام 2012 — بفضل وفرة المتطوعين — لكن التعديلات الجديدة جعلت كثيراً من المراهقين يشعرون بأن الدور قد يأتي عليهم قريباً، بحسب صحيفة «صنداي تايمز» البريطانية.

ويهدف التوسع في التجنيد إلى تعزيز قوات الاحتياط الدنماركية، ورفع عدد المجندين من نحو 4000 سنوياً إلى 7500، ضمن خطوات عديدة تشير إلى أن البلاد تستعد للحرب.

ففي الشهر الماضي، أعلنت الحكومة عن زيادة إنفاق دفاعي بقيمة 3.2 مليار جنيه إسترليني لشراء مزيد من طائرات إف 35 والطائرات المسيّرة والسفن، ضمن خطة تمتد لتخصيص 20 مليار جنيه خلال عشر سنوات. كما ارتفع الإنفاق الدفاعي من 2% من الناتج المحلي في 2023 إلى 3% هذا العام.

ويرى كثير من الدنماركيين — والحكومة — أن التهديدات الروسية تتزايد؛ ففي سبتمبر/أيلول الماضي، أُغلقت مطارات كوبنهاغن وأوسلو لعدة ساعات بعد الاشتباه في اختراق طائرة مسيّرة روسية. وقبل ذلك بأيام، اخترقت 19 طائرة مسيّرة روسية المجال الجوي البولندي، ما أثار قلق الناتو. ووصف رئيسة الوزراء، ميتي فريدريكسن، تلك الطائرات بأنها «أخطر هجوم على البنية التحتية الحيوية الدنماركية حتى الآن».

وتعتمد عدد من الدول الأوروبية بالفعل أحد أشكال التجنيد الإلزامي — مثل إستونيا وفنلندا ولاتفيا وليتوانيا — وهي الأكثر قرباً من روسيا. لكن الحرب في أوكرانيا وتصاعد «أنشطة المنطقة الرمادية» أعادا النقاش بقوة في القارة.

والأسبوع الماضي، أعلنت ألمانيا أنها ستستدعي جميع الرجال في سن 18 للفحص الطبي العسكري، وأنها ستنشئ آلية للتجنيد الطارئ، فيما أعادت إيطاليا فتح نقاش حول إعادة الخدمة الإلزامية.

وفي أحد مراكز التجنيد الأربعة في الدنمارك — والمفتوحة 364 يوماً في السنة — يتدفّق عشرات الشباب، معظمهم رجال، إلى الداخل لتسجيل بياناتهم ثم حضور عرض تقديمي من جندي شاب يشرح مسار الخدمة العسكرية. أما النساء، فعددهن أقل لأن استدعاءهن بدأ للتو.

يوم الدفاع

ومع بلوغ الشباب 18 عاماً، يتلقون رسالة من وزارة الدفاع تدعوهم لحضور «يوم الدفاع» وتسجيل أسمائهم، بحسب «صنداي تايمز»، التي قالت إن التخلف عن الحضور يُعد مخالفة ويُغرم الشخص 1000 كرونة (118 يورو)، وترتفع الغرامة إلى 3000 كرونة في حال التكرار، وبعد المرة الثالثة، تحضر الشرطة إلى المنزل لإحضار الشخص بالقوة.

يقول أحد الرقباء: «هذا يحدث كثيراً. الشرطة تحضر ما لا يقل عن شخص واحد يومياً».

وبعد العرض، يخضع المرشحون لاختبار إلكتروني لمدة ساعة، ثم للفحص الطبي الكامل وهم بملابسهم الداخلية، يتبعه سحب رقم من 1 إلى 36 ألفاً يحدد احتمالية استدعائهم. ويظل الشخص معرضاً للاستدعاء حتى سن 32، مع زيادة احتمال الاستدعاء لمن يسحبون أرقاماً أقل.

فتاة دنماركية تتلقى تدريبا في صفوف الجيش

والبعض لا يرغب إطلاقاً في الخدمة، من هؤلاء سيغورد لوكا ويك، 19 عاماً، الذي قال: «لو كان الأمر بيدي لما أتيت. أنا منزعج جداً، فأنا ضد الحرب بكل وضوح». من يرفض الخدمة يمكنه التقدم للحصول على صفة «رافض لأسباب ضميرية» والعمل في حضانات أو دور رعاية المسنين أو المستشفيات بدلاً من الجيش، وهو ما يخطط له ويك.

وتبلغ مكافأة الخدمة العسكرية نحو 1400 يورو شهرياً، إضافة إلى سكن مجاني. ويمكن تأجيل الخدمة إلى ما بعد الدراسة.

تجنيد إلزامي

يقول القائد سونه لوند، المشرف على «يوم الدفاع»، إن التجنيد الإلزامي له سلبيات: «علينا التأكد أن الأشخاص قادرون على التحمل النفسي والجسدي. إطلاق النار، وسماع الانفجارات، والانضباط العسكري… هذا تحول كبير في حياة أي شاب».

لكنّ لوند يؤكد أن البيئة الأمنية في أوروبا تتطلب إشراك النساء، مشيرًا إلى أن العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا «جعلت من الواضح أننا بحاجة إلى تعزيز أمننا بأنفسنا. ولتحقيق ذلك والاستفادة من كامل المجتمع، فإن التجنيد الشامل لكل الجنسين هو الطريق الأفضل».

ورغم أن الدنمارك تُعد من أكثر دول أوروبا مساواة بين الجنسين — البرلمان 44% منه نساء — فإن النساء لا يشكلن سوى 25% من الجيش.

فإلى جانب فيديوهات تيك توك، وخطط عطلات نهاية الأسبوع، ودروس التاريخ، هناك موضوع آخر تتحدث عنه سيغنه ليفيفر، 17 عاماً، من مدينة هوبرو شمال الدنمارك، مع صديقاتها: هل سيُجبرن قريباً على الالتحاق بالجيش؟

تقول ليفيفر: «يبدو أنه أصبح أمراً طبيعياً الآن بالنسبة لفتاة دنماركية في سن المراهقة أن تتحدث عن احتمال دخول الجيش. سأبلغ 18 عاماً في فبراير/شباط، وهذا يقلقني. معظمنا لا يشعر بالارتياح إطلاقاً، والكثير منا خائف جداً من أن يتم اختياره — وأنا منهن».

وترى ليفيفر أن المساواة في التجنيد خطوة إيجابية، لكنها تقول إن بلادها ما زالت بعيدة عن المثالية: «واحدة من صديقاتي قالت إن عدد الرؤساء التنفيذيين في الدنمارك الذين يحملون اسم (لارس) يفوق عدد الرئيسات التنفيذيات من النساء».

وتضيف أن القلق لديها شخصي: فهي تريد عاماً فاصلاً قبل الجامعة، وتخشى أن يغيّر التجنيد مسار حياتها. وتشعر بأن الشباب يدفعون الآن ثمن الأزمة الجيوسياسية التي صنعها الكبار.

فتاة دنماركية تتلقى تدريبا في صفوف الجيش

في شوارع كوبنهاغن، يحظى قانون التجنيد الجديد بدعم واسع. تقول الطالبة سلينا فروست زاخو، 21 عاماً، وهي مع صديقتيها: «إذا كنا نريد مساواة حقيقية، فيجب أن يخضع الجنسان للأمر نفسه. الرجال لا يريدون التجنيد لكنهم يفعلونه لأنهم مجبرون، فلماذا لا نُجبر نحن أيضاً؟»

وترى أن زيادة عدد النساء قد تنهي شعور المؤسسة العسكرية بأنها «نادٍ للرجال»، مضيفةً أن النساء أكثر وعياً بمخاطر الحرب: «الكثير من الفتيات يفكرن: قد نموت فعلاً… خصوصاً مع الحديث عن حرب محتملة مع روسيا والطائرات المسيّرة التي تظهر في سمائنا».

فتاة دنماركية تتلقى تدريبا في صفوف الجيش

ورغم بُعد الدنمارك 700 ميل عن روسيا، فإن التهديد بات ملموساً. نشرات الأخبار تقدم إرشادات للتعامل مع انقطاع الكهرباء أو نقص الغذاء، والبرامج التلفزيونية تناقش كيفية التحدث مع الأطفال حول التجنيد.

يقول العقيد كينيث ستروم، رئيس برنامج التجنيد: «كل الدنماركيين يشعرون بالخطر غير المسبوق. وهذا يعني أننا بحاجة لبناء قوة قتالية إضافية بأسرع وقت».

وعن إمكانية توسيع التجنيد أكثر، يقول ستروم بحذر: «لا أراه وضعاً ثابتاً… كل شيء يتغير باستمرار».

الردع

وينتقد البعض هذه الخطوات بحجة أنها تزيد التوتر في أوروبا. فوجود جيش كبير قد يغري باستخدامه. لكنّ ستروم يرد: «الطريق الأكثر أهمية الآن هو الردع، وإن لزم الأمر، المشاركة في دفاع الناتو الجماعي».

وفي قاعدة ياغرسبرس العسكرية خارج كوبنهاغن، حيث تتساقط أوراق الأشجار، يتدرب الجنود بإطلاق الذخيرة الحية. يقول مجند شاب: «الكثير منا تلقى صدمة واقعية عندما ظهرت الطائرات المسيّرة في الدنمارك. على الأقل أعرف أن ما نتعلمه هنا قد نحتاجه حقاً».

وبعد التدريب، جلست ماتيلده (21 عاماً) وسكوفلوند (20 عاماً)، وهما المتطوعتان الوحيدتان من النساء في الدورة، تتحدثان إلى بقية المجندين.

فتاة دنماركية تتلقى تدريبا في صفوف الجيش

وقالت سكوفلوند: «أردت تجربة شيء يتحدى حدودي». أما ماتيلده، فتقول إن أصعب ما واجهته كان مشاركة المساكن مع رجال: «في البداية كان الأمر صعباً — الصراخ… والملابس الداخلية في كل مكان — لكنني اعتدت على ذلك».

وعن شعورها لو استدعيت للقتال؟ تقول ماتيلده: «فكرت في ذلك كثيراً مؤخراً، فالحرب أقرب مما كانت حين تطوعت. أحاول أن أكون هادئة… وسأفعل ذلك من أجل بلدي».

هل تشعر بالواجب للدفاع عن الدنمارك وأوروبا؟ تتوقف قليلاً ثم تقول: «لا أعتقد أنه واجب… لكنني سعيدة بالمساعدة».

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى