مواقع التجارب النووية.. جرح الأرض الدامي

                            منذ تفجير أول قنبلة ذرية في صحراء نيو مكسيكو عام 1945، لم تهدأ الأرض من ارتدادات سباق التسلّح النووي الذي خلّف وراءه مئات المواقع 
الملوّثة وآلاف الضحايا الصامتين.
فبين السهول الكازاخية، وصحارى نيفادا، وجزر المحيط الهادئ، والقطب الشمالي الروسي، ما زال البشر والبيئة يدفعون ثمن مغامرات القوى العظمى التي اختبرت قواها التدميرية على جسد الكوكب نفسه.
سيميبالاتينسك.. الجرح السوفياتي المفتوح
في شمال شرق كازاخستان، يمتدّ موقع “سيميبالاتينسك” كأحد أكثر بقاع الأرض تلوثًا بالإشعاع. وعلى مدى أربعين عامًا تقريبًا، أجرت موسكو أكثر من 450 تجربة نووية في المنطقة، كثير منها في الهواء الطلق، ما جعل القرى المحيطة مسرحًا لكارثة صحية بطيئة.
أصيب الآلاف من السكان بأمراض السرطان والتشوّهات الوراثية، فيما توارثت الأجيال التالية آثار الإشعاع في أجسادها. ولم تسلم التربة والنباتات والمياه هي الأخرى من التلوث، لتتحوّل المنطقة إلى مختبر طبيعي لدراسة ما يخلّفه الإنسان حين يعبث بذرة الموت.
وبرغم مرور عقود على إغلاق الموقع، ما تزال كازاخستان تواجه إرثًا معقّدًا من الأمراض والوصمة البيئية التي لا تزول بسهولة.
لوب نور.. صحراء الصين المشعّة:

في قلب صحراء شينجيانغ الصينية، كان موقع “لوب نور” شاهداً على سلسلة من التفجيرات النووية التي امتدت منذ ستينيات القرن الماضي حتى مطلع الثمانينيات. تفجيرات فوق الأرض وتحتها خلّفت وراءها سحابات من الإشعاع طالت التجمعات السكانية القريبة، خاصة الأقليات العرقية التي كانت تعيش دون أي تحذير أو حماية.
وحتى اليوم، تبقى المنطقة مغلقة أمام الأبحاث المستقلة، ما يجعل “لوب نور” لغزًا نوويًا يلفّه الغبار والصمت.
نيفادا.. الأمريكيون الذين عاشوا تحت الغبار الذري

على أطراف مدينة لاس فيغاس، أقامت الولايات المتحدة أكبر ميدان لتجاربها النووية داخل أراضيها. ففي خمسينيات القرن الماضي، كان سكان المناطق الريفية القريبة يخرجون لمشاهدة الانفجارات من على التلال كما لو كانت عروضاً نارية، قبل أن يدركوا لاحقًا أنهم تنفسوا غباراً قاتلاً.
أُطلق على هؤلاء اسم “المنكوبين بالرياح”، إذ كانت الرياح تحمل الرماد الإشعاعي إلى ولايات يوتاه وأريزونا، مسببة ارتفاعاً مقلقاً في حالات السرطان وأمراض الغدة الدرقية.
وبعد سنوات من الإنكار، أقرت الحكومة بوجود أضرار فعلية وأطلقت برامج تعويض محدودة، لكن آلاف العائلات ما زالت ترى أن العدالة لم تتحقق بعد.
نوفايا زيمليا.. تجارب القيصر

في أقصى شمال روسيا، فوق الدائرة القطبية، تقع جزر “نوفايا زيمليا” التي حوّلها الاتحاد السوفياتي إلى ساحة لتجاربه النووية الكبرى. هناك، فجّر السوفيات عام 1961 “قنبلة القيصر” – أضخم سلاح نووي عرفه الإنسان – فاهتزّت الأرض وارتفع عمود النار إلى طبقات الجو العليا.
ودفعت الشعوب الأصلية التي كانت تعيش في المنطقة الثمن بصمت. فقد تسرّبت المواد المشعة إلى سلاسل الغذاء القطبية، ووصلت آثارها إلى لحوم الرنة والنباتات، لتترك وراءها إرثًا بيئيًا معقدًا ما زالت روسيا تحاول احتواءه حتى اليوم.
مارالينغا.. الجريمة البريطانية في صحراء أستراليا

في جنوب أستراليا، اختبرت بريطانيا قنابلها الذرية على أرضٍ تسكنها قبائل السكان الأصليين. ولم يكن أحد من هؤلاء يعلم أن سحب الدخان البيضاء التي غطت السماء كانت إشعاعاً قاتلاً.
تلوثت أراضي الرعي والصيد، واضطرت القبائل إلى مغادرة موطنها، فيما ظلت المنطقة محرّمة لعقود طويلة بسبب مستويات الإشعاع العالية.
ورغم جهود التنظيف التي جرت في التسعينيات، ما تزال مارالينغا تُذكر كرمز لحقبةٍ استخدمت فيها الإمبراطورية البشر والأرض كحقول تجريب.
بيكيني أتول.. الجنة التي أحرقتها التجارب النووية

في قلب المحيط الهادئ، كانت جزر بيكيني واحدة من أجمل بقاع الأرض، قبل أن تحوّلها الولايات المتحدة إلى موقع لتجاربها النووية بعد الحرب العالمية الثانية. فبين عامي 1946 و1958، فجّرت واشنطن هناك عشرات القنابل، بعضها بقوة تفوق بمئات المرات قنبلة هيروشيما.
أُجبر سكان الجزيرة على الرحيل إلى جزر أخرى، ولم يتمكن معظمهم من العودة حتى اليوم بسبب التلوث الإشعاعي، فيما تعاني الأجيال الجديدة من أمراض مزمنة، ولا يزال الحلم بالعودة إلى “الوطن المسروق” معلّقاً في انتظار معجزة بيئية قد لا تأتي.
رقان الجزائرية.. الرمال التي لا تنام

في عمق الصحراء الكبرى، أجرت فرنسا أولى تجاربها النووية مطلع الستينيات، في منطقة “رقان” بالجنوب الجزائري. كانت حينها البلاد ما تزال تحت الاحتلال، ولم يكن لسكان الصحراء من الطوارق والبدو أي علم بما يجري من تفجيرات هائلة.
أصابت السكان أمراض غامضة ونفقت قطعانهم، بينما ظلّ الغبار الإشعاعي عالقاً في الهواء والرمال لسنوات طويلة. وبعد الاستقلال، طالبت الجزائر مراراً باريس بتحمّل مسؤوليتها التاريخية، لكن الاعتراف الكامل لم يتحقق بعد، لتظلّ رمال الصحراء شاهدة على أحد أكثر فصول الاستعمار قسوةً وغموضاً.
بوكهران.. النووي الهندي يوقظ الجدل

في صحراء ولاية راجستان الهندية، فجّرت نيودلهي قنابلها النووية الأولى عام 1974 ثم في عام 1998، معلنة نفسها دولة نووية. ورغم إجراء الاختبارات تحت الأرض، أبلغت القرى المحيطة عن تصدعات في الآبار وتلوث في المياه.
ولم تسجّل كوارث واسعة النطاق كالتي شهدتها مواقع أخرى، لكن ظهور الهند في النادي النووي أثار مخاوف من سباق تسلّح جديد في جنوب آسيا، لا سيما مع باكستان.
تشاغاي.. باكستان
يقع موقع تشاغاي في بلوشستان شمال غرب باكستان، حيث أجرت باكستان اختبارات نووية في مايو/ أيار 1998. هذه الاختبارات كانت تجرى تحت الأرض ولم تكن جزءاً من سلسلة تفجيرات جوّية متعددة كما في بعض الدول الأخرى.
لكن المعلومات المتوفّرة في المصادر المفتوحة عن التأثيرات على السكان المحليين في منطقة تشاغاي أقل وفرة من بعض المواقع الأخرى. وتشير بعض الشهادات إلى مخاوف محلية بشأن التأثيرات على الصحة والتربة.
إرث لا يزول
تختلف مواقع التجارب النووية في الجغرافيا والثقافة والسياسة، لكنها تشترك في خيط واحد: معاناة البشر الذين لم يُستأذنوا يوماً قبل أن يتحولوا إلى ضحايا للتاريخ.
تضررت عشرات الآلاف من الأرواح، وولدت أجيال بإعاقات وراثية، وبيئات كاملة ما زالت تعاني من مستويات إشعاع تفوق الحدود الآمنة.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز
 
				



