اسعار واسواق

«تسليح الطاقة».. النفط والغاز والمعادن في قلب الصراع الجيوسياسي


في العقد الثالث من القرن الحادي والعشرين، لم تعد الطاقة مجرد سلعة اقتصادية تُقاس بأسعار البرميل أو الكيلوواط، بل تحوّلت مجددًا إلى أداة نفوذ جيوسياسي تُستخدم لتقويض الخصوم أو ترسيخ التحالفات.

وتحت عنوان «عودة سلاح الطاقة»، تقول مجلة «فورين أفيرز» الأمريكية إن ما يشهده العالم اليوم هو ولادة جيل جديد من حروب النفوذ، لا تُخاض بالدبابات أو العقوبات التقليدية، بل عبر الغاز، والمعادن النادرة، والكهرباء، والتكنولوجيا الخضراء.

الطاقة كسلاح تاريخي في العلاقات الدولية

فمنذ الحرب العالمية الأولى، كان النفط أداة رئيسية في تحديد نتائج النزاعات الكبرى. إذ استخدم البريطانيون الحصار النفطي ضد ألمانيا، واعتمدت الولايات المتحدة على إمدادات الطاقة لدعم حلفائها.

وفي سبعينيات القرن الماضي، استخدمت الدول العربية النفط للضغط السياسي بعد حرب أكتوبر 1973، في واحدة من أكثر لحظات «تسليح الطاقة» تأثيرًا في التاريخ الحديث.

لكن مع نهاية الحرب الباردة وانتصار السوق الحرة، بدا أن هذا العصر قد انتهى. فتحرير الأسواق، ووفرة الإنتاج، وتوسع العولمة أوحت بأن «الطاقة» باتت سلعة عالمية لا تخضع للاعتبارات السياسية.

غير أن هذا التصور سرعان ما تهاوى مع تصاعد التنافس بين القوى الكبرى، وعودة النزاعات على خطوط الإمداد، وظهور أدوات جديدة للهيمنة الطاقوية.

من موسكو إلى بكين.. عودة «السلاح الصامت»

تقول «فورين أفيرز» إن العملية العسكرية الروسية بأوكرانيا عام 2022 كان لحظة انكشاف قاسية لأوروبا.

فقد استخدمت موسكو صادرات الغاز كورقة ضغط قوية، مهددة بإغراق القارة في شتاء بلا تدفئة، ما أجبر الاتحاد الأوروبي على إعادة رسم سياساته الطاقوية بالكامل.

وفي الوقت ذاته، برزت الصين كلاعب آخر يستخدم الطاقة بشكل مختلف — ليس عبر النفط أو الغاز، بل من خلال سيطرتها شبه الكاملة على المعادن النادرة والمعادن الحيوية الضرورية لصناعة البطاريات والسيارات الكهربائية والرقائق الإلكترونية.

وبهذا، انتقل «سلاح الطاقة» من مجال الوقود الأحفوري إلى مجال التكنولوجيا الخضراء، في مشهد يعكس تحوّل موازين القوة الاقتصادية والجيوسياسية معًا.

أمريكا تعود إلى سياسة «التحكم بالإمدادات»

وتضيف المجلة أن الولايات المتحدة نفسها — التي طالما نادت بحرية الأسواق — عادت إلى استخدام أدوات الطاقة كسلاح جيوسياسي.

فمن خلال فرض العقوبات على صادرات النفط الإيرانية والفنزويلية، واشتراط التعاون الأمني أو التجاري بالالتزام بسياساتها الطاقوية، عادت واشنطن لتستخدم مواردها الضخمة كوسيلة نفوذ لا تقل عن أدواتها العسكرية.

وتشير المجلة إلى أن هذه التحولات أدت إلى عودة سياسات الدولة القومية في إدارة الطاقة، بعد أن كانت الشركات المتعددة الجنسيات هي المحرك الرئيس. والنتيجة هي نظام عالمي أكثر «تسييسًا» وأقل استقرارًا.

ملامح عصر الطاقة الجديد

ويرصد التحليل 4 تحولات رئيسية تُشكّل ملامح هذا العصر الجديد:

  1. عودة الشح في الأسواق: إذ أدى تراجع الاستثمارات في التنقيب والإنتاج إلى تقليص الاحتياطيات المتاحة، ما جعل الأسواق أكثر هشاشة أمام الصدمات السياسية.
  2. تعاظم دور «أوبك»: فمع تقلص الإنتاج في مناطق أخرى، يُتوقع أن ترتفع حصة «أوبك» في سوق النفط إلى نحو 40% بحلول عام 2050، ما يعيدها إلى قلب اللعبة العالمية.
  3. الغاز كسلاح استراتيجي: رغم مرونة سوق الغاز الطبيعي المسال، إلا أن تمركز الإنتاج في عدد محدود من الدول يجعل من الغاز ورقة ضغط مشابهة للنفط في القرن الماضي.
  4. الاعتماد الجديد على المعادن الحيوية: إذ إن الانتقال نحو الطاقة المتجددة لا يعني نهاية التبعية، بل نقلها إلى الصين التي تهيمن على أكثر من 70% من عمليات تكرير المعادن الأساسية للطاقة النظيفة.

الطاقة الكهربائية.. سلاح المستقبل

تحذر «فورين أفيرز» من أن سلاح الطاقة في القرن الحادي والعشرين لن يقتصر على النفط والغاز، بل سيمتد إلى الكهرباء ذاتها.

فمع الترابط المتزايد بين شبكات الطاقة، يصبح التحكم في البنية التحتية للطاقة أو تعطيلها — سواء عبر الهجمات السيبرانية أو الضغط التقني — سلاحًا فعالًا في يد الدول الكبرى.

وتضيف المجلة أن «سلاح الكهرباء» قد يكون أكثر خطورة لأنه لا يحتاج إلى جيوش، بل إلى قدرات إلكترونية متقدمة قادرة على إيقاف المصانع والمستشفيات وشبكات الاتصالات في ثوانٍ.

كيف يواجه العالم تسليح الطاقة؟

ودعت «فورين أفيرز» إلى بناء منظومة جديدة لأمن الطاقة، تتجاوز التركيز التقليدي على النفط والغاز لتشمل المعادن النادرة والتكنولوجيا المتقدمة والبنى التحتية الرقمية.

وتقترح المجلة مجموعة من الخطوات العملية، أبرزها:

  • تنويع مصادر الإمداد لتقليل الاعتماد على مناطق النزاع أو القوى الاحتكارية.
  • بناء احتياطيات استراتيجية من المواد الحيوية والمعادن النادرة، أسوة بالاحتياطي النفطي.
  • تحصين شبكات الطاقة ضد الهجمات السيبرانية.
  • توسيع الطاقة النظيفة المحلية لضمان السيادة الطاقوية.
  • تبنّي سياسات حكومية مرنة توازن بين الانفتاح الاقتصادي والأمن الوطني.

إن عودة سلاح الطاقة قد تكون في الوقت ذاته الحافز الأكبر لتسريع التحول نحو الطاقة النظيفة.

فالدول التي تخشى الوقوع في فخ التبعية — سواء لروسيا أو الصين أو الشرق الأوسط — قد تجد في الاستثمار في الطاقة المتجددة طريقًا إلى السيادة والاستقلال الاقتصادي.

ووفق فورين أفيرز فإن «الخوف من الاعتماد على الآخرين، قد يصبح القوة الدافعة لبناء نظام طاقوي أكثر أمنًا وعدلًا واستدامة».

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى