أزمة حكومة فرنسا تتعمق.. خبراء يرسمون سيناريوهات ما بعد لوكورنو

غموض وقلق يعتريان الساحة السياسية الفرنسية عقب استقالة سيباستيان لوكورنو، رئيس الوزراء الفرنسي، بعد نحو 4 أسابيع من تكليفه.
خبراء فرنسيون رسموا لـ”العين الإخبارية” سيناريوهات مستقبلية لما بعد استقالة لوكورنو، معتبرين أنها ليست مجرد حادث فردي، بل تعبير عن أزمة سياسية أعمق تُصيب المؤسسات والدولة الفرنسية بعد انتخابات وتشكيلات برلمانية أدت إلى برلمانٍ مشتّت، وأغلبية مفقودة، وصراعٍ متصاعد على الشرعية والحكم.
أستاذ العلوم السياسية في معهد الدراسات السياسية كريستيان ليكزين في باريس قال لـ”العين الإخبارية” إن “استقالة لوكورنو تُظهر إلى أي مدى أصبحت المؤسسات التنفيذية في فرنسا رهينة لتوازنات برلمانية هشّة، بحيث لا يكفي أن يُعيَّن رئيس حكومة جديد، بل يجب أن يؤمّن دعمًا حقيقيًا داخل البرلمان، وهو ما يبدو من الصعب تحقيقه في المشهد الحالي”.
ورأى ليكزين أن الحل لا يكمن في استبدال الوجوه فحسب، بل في إعادة صياغة قواعد التحالفات داخل البرلمان، وإعادة الاعتبار لآليات البناء البرلماني التي تضمن استمرارية الحكم.
واعتبر أن التركيبة البرلمانية هي التي تحكم، وليس الأفراد وحدهم، مشيرًا إلى أن ردود الفعل الحادّة من الأطراف السياسية تُعدّ تأكيدًا على أن الاستقالة كانت استجابةً لهزال القدرة السياسية على التواصل والتوافق.
وقال إن رفض الكتل المعارضة منح الثقة مسبقًا يُظهر أنهم لا يؤمنون بأن التشكيلة الحكومية الجديدة ستحظى بقدرةٍ فعّالة على تصريف الأعمال، ما يدعم نظرية أن الحكومة الجديدة كانت محكومًا عليها بالفشل منذ البداية.
وأضاف أن ما حصل مع لوكورنو ليس فقط نتيجة لحظة سياسية محدودة، بل هو عرضٌ مركّب لأسباب تراكمت طويلًا: برلمان بلا أغلبية واضحة، وأحزاب متنافرة فكريًا، وتطلّعات متعارضة داخل المعسكر الرئاسي ومع الأطراف المعارضة.
وأشار إلى أن استقالة رئيس الوزراء قبل أن يُلقي خطابه أمام البرلمان، في ظل التهديدات بحجب الثقة من الكتل اليسارية ومعارضة من اليمين كذلك، تكشف أن المعضلة ليست في الأفراد بقدر ما هي في بنية التوازنات السياسية نفسها.
تفكك المشهد الحزبي
أما عن السيناريوهات، فقد أشار الباحث السياسي الفرنسي إلى أن فرنسا قد تتجه نحو نموذج حكومة أقلية، أي حكومة لا تمتلك أغلبية برلمانية ثابتة، لكنها تُدار برعاية الرئاسة وتحاول تأمين الدعم عند الحاجة، عبر التوافقات الجزئية أو التحالفات المؤقتة.
وأوضح أن هذا النموذج ليس جديدًا في التجربة الأوروبية، لكنه يشكل تحديًا كبيرًا في سياق الدستور الفرنسي الذي يعطي الرئيس صلاحيات مهمة، لكنه في المقابل يواجه برلمانًا منقسمًا قد يُستثمر فيه أيّ ضعفٍ للحكومة أو استهدافها بحجب الثقة.
الخيار الدستوري والسياسي أمام ماكرون
السيناريو الثاني، بحسب الخبير الفرنسي، هو أن أمام الرئيس ماكرون الآن إمكانية تعيين رئيس حكومة جديد قريب من الوسط، إذ يحاول تجميع التحالفات بين الأصوات الوسطية من اليمين واليسار المعتدل، لكنه ربما سيواجه رفضًا قويًا من أطراف متعددة.
والسيناريو الثالث هو حلّ البرلمان والدعوة إلى انتخابات مبكرة، لكن هذا الخيار محفوف بالمخاطر، لا سيما أن الانتخابات قد تُعطي صعودًا أقوى لتيار أقصى اليمين أو لقوى المعارضة، مما قد يُغيّر المعادلة برمّتها، وفقًا للخبير الفرنسي، الذي أوضح أن السيناريو الرابع هو الاستمرار في حكومة انتقالية أو حكومة أقلية مُقيّدة بالظروف، تعمل بمرونة، وتركّز على السياسات الضرورية لتفادي الانهيار الاقتصادي أو الاجتماعي، مع القبول بأنها لن تتمتع بقدرة تنفيذية كاملة على كل الملفات.
بدوره، قال ڤانسان مارتيني، أستاذ العلوم السياسية في جامعة نيس وعضو باحث في معهد العلوم السياسية في باريس، لـ”العين الإخبارية”، إن التوترات التي يتعرض لها تيار “الماكرونية” التابع للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، أظهرت انكسارَه أمام الأزمات المؤسساتية.
وقال مارتيني إن استقالة لوكورنو تُعدّ تجلّيًا طبيعيًا للأزمة التي بدأت تتراكم في العقد الأخير، حيث فشلت استراتيجية “الوسط التوافقي” في الاستجابة لتعدد الأقطاب السياسية.
ووفقًا لمارتيني، فإنه ما لم تُقدَّم رؤية جديدة للتماسك السياسي وتشكيل أغلبية ثابتة، سيظلّ أي رئيس وزراء معرّضًا للفشل المبكر تحت وطأة الضغوط.
ورأى أن استقالة لوكورنو جاءت كردّ فعلٍ ضروري للهروب من المواجهة المباشرة مع حجب الثقة، الذي كانت الكتل اليسارية قد أعدّت له، ومعارضة اليمين، مما يعني أن الاستقالة ليست مجرد فشلٍ شخصي، بل نتيجة لتراكم الضغوط والتوقعات التي لم تتحقق.
وقال إنه “قبل أن يعلن لوكورنو أنه سيلقي خطابًا يوم غد الثلاثاء، ثم يستقيل قبل ذلك، يوحي بأن هناك إعدادًا للمعركة من جهة المعارضة، وأن الحكومة لم تكن قادرة عمليًا على تأمين الثقة المطلوبة حتى قبل بداية مهامها رسميًا”.
ولاقت استقالة لوكورنو رفضًا فوريًا من الكتل اليسارية التي أكدت أنها كانت ستقدّم مذكرة لحجب الثقة، فيما أعرب اليمين عن استعداده لعدم دعم أي حكومة جديدة تحت إشراف ماكرون.
وقال حزب “الجمهوريين” في بيانٍ إنه “لن يمنح الماكرونية جولةً أخيرة”، بينما دعا حزب التجمع الوطني إلى حلّ البرلمان أو استقالة الرئيس.
وداخل المعسكر الرئاسي نفسه، عبّرت وزيرة إعادة التعيين عن استيائها من الوضع، ودعت إلى فتح حوارٍ مع قوى الوسط واليسار.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز