«إعلان إشبيلية» يكشف أزمة نموذج التنمية العالمي.. فشل وديون متصاعدة

في أجواء حارة تخطت 100 درجة فهرنهايت، انعقد مؤتمر الأمم المتحدة الرابع لتمويل التنمية (FFD4) في يوليو/تموز الماضي، لكن حرارة الطقس لم تمتد إلى أجواء المفاوضات، التي بدت باهتة وخالية من التوتر المعتاد.
غياب الولايات المتحدة، التي انسحبت في يونيو/حزيران، طغى على المؤتمر، خاصة بعد إقرار “إعلان إشبيلية” قبل أسبوعين من انطلاقه، ما ألغى أي دراما تفاوضية كانت متوقعة.
ورغم الفتور السياسي، شهد المؤتمر حضورًا كثيفًا لنحو 6000 مشارك، معظمهم من جماعات الضغط وممثلي الشركات الكبرى والمؤسسات المالية. هؤلاء سعوا لتسويق ما يُعرف بنموذج “التنمية القابلة للاستثمار”، بينما رفع ممثلو الجنوب العالمي مطالبهم بإلغاء الديون وتوفير تمويل حقيقي لمواجهة تحديات المناخ والتنمية.
وكشف مؤتمر FFD4 عن أزمة عميقة في نموذج تمويل التنمية الحالي، الذي بات يخدم الأسواق أكثر من الناس. ومع استمرار غياب الإرادة السياسية لإصلاح حقيقي، تبقى العدالة المالية شعارًا مؤجلًا، بانتظار تحولات أعمق في موازين القوى العالمية.
النموذج الذي رُوّج له منذ قمة أديس أبابا عام 2015، تحت شعار “من مليارات إلى تريليونات”، استند إلى فكرة استخدام الأموال العامة لتحفيز تدفق استثمارات خاصة ضخمة في مشاريع تنموية. لكن بعد عقد من الزمن، تشير الأرقام إلى فشل هذا التصور؛ فبحسب منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية، كل دولار من المال العام جذب فقط 30 سنتًا من الاستثمارات الخاصة.
وبدلًا من تحقيق تنمية مستدامة، تحوّل النموذج إلى إعادة صياغة التنمية كفرص مالية، حيث تُعامل المدارس والمستشفيات ومشاريع البنية التحتية كأصول للاستثمار، مدعومة بتسهيلات حكومية وقروض ميسرة. ومع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن العائد الأكبر ذهب إلى القطاع المالي لا إلى المجتمعات.
ولم يكن الفشل في جذب الاستثمارات التحدي الوحيد، بل الأعباء الناتجة عن هذا النموذج فاقمت أزمة الديون. فقد بلغت خدمة الدين الخارجي للدول النامية 1.4 تريليون دولار في عام 2023، ما دفع كثيرًا من الحكومات إلى تقليص الإنفاق على الصحة والتعليم، في محاولة للوفاء بالتزامات مالية لم تحقق عوائد تنموية ملموسة.
وأقرّ “إعلان إشبيلية” بهذا الواقع جزئيًا، مشيرًا إلى أن “تحمل الدولة للمخاطر” غالبًا ما يصب في مصلحة المستثمرين. كما أشار إلى أن التمويل المختلط يذهب في معظمه إلى الدول متوسطة الدخل، تاركًا الدول الفقيرة دون دعم فعلي.
ورغم تشخيص الإخفاقات، لم يقدّم الإعلان الختامي للمؤتمر حلولًا جذرية. توصيات لجنة الخبراء – التي شاركت في صياغتها كاتبة هذا التحليل – لم تجد طريقها إلى النص النهائي. وكانت اللجنة قد أوصت بوضع معايير لمشاريع “التنمية القابلة للاستثمار”، وتحديد سقف للمخاطر التي تتحملها المالية العامة، واستثناء قطاعات مثل الصحة والتعليم من الشراكات الربحية. لكن الإعلان اكتفى بتعهدات عامة عن “آليات للمراقبة والمساءلة”، دون التزامات حقيقية.
في المقابل، برزت هيمنة ممثلي المصالح المالية على النقاشات، خصوصًا في منتدى الأعمال الموازي، حيث تكررت المزاعم بأن فشل “التريليونات” سببه نقص الحوافز للمستثمرين، لا خللًا في النموذج نفسه.
ودعا نشطاء المجتمع المدني إلى إنشاء آلية دولية لإعادة هيكلة الديون، ووضع مبادئ للإقراض المسؤول، وإشراك الدائنين من القطاع الخاص في أي إعفاءات. بعض هذه الأفكار ورد في فقرة يتيمة، لاقت اعتراضًا من دول مثل كندا، اليابان، كوريا الجنوبية، وبريطانيا، فيما امتنعت الصين عن المعارضة، في موقف لافت.
أما الغائب الأكبر في المؤتمر فكان البنوك المركزية، رغم دورها المحوري في خلق الأموال وتحفيز الاقتصاد. هذا التغييب، بحسب محللين، لم يكن صدفة، بل جزءًا من استراتيجية للحفاظ على استقلالية هذه المؤسسات ضمن إطار نيوليبرالي يمنع استخدامها كأداة تنموية، ويقيّد الإنفاق الحكومي.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز