المعادن النادرة.. عنوان الصراع الجيوسياسي القادم في اليابسة والأعماق

في السنوات الأخيرة، ومع تجاسر القوى العظمى على بعضها البعض بأوراق مكشوفة تهدد فيها كل دولة باستخدام مكامن قوتها للمواجهة بدلًا من التعاون، برزت جبهة المعادن النادرة كواحدة من أهم جبهات الصراعات الجيوسياسية المقبلة.
المعادن النادرة، أو العناصر النادر والتي تدخل في صلب الصناعات المتقدمة والطاقات المتجددة، والإلكترونيات الدقيقة، والأسلحة، أصبحت اليوم ورقة ضغط بيد القوى التي تملكها، وهاجسًا يؤرق تلك التي تفتقر إليها مع شعور عميق بأن ثمة تهديد وجودي يحاصرها.
السباق العالمي للحصول على تلك الموارد التي كانت غامضة في السابق، أصبح الآن عنوانا رئيسيا في ملفات الصراع التي اقتصرت في الماضي على سباقات السلاح أو النفط أو حتى التكنولوجيا.
وخلال فعاليات اليوم الأول من منتدى هيلي الدولي، التى انطلقت في أبوظبي الإثنين، تعقد جلسة خاصة بعنوان (ساحات تنافس جديدة: المعادن الحرجة ودبلوماسية الممرات الاقتصادية) لمناقشة دور المعادن النادرة في الصراعات الجيوسياسية.
ويشارك في الجلسة: السفير فرانشيسكو ماريا تالوه المبعوث الخاص الإيطالي المعني بالممر الاقتصادي بين الهند والشرق الأوسط وأوروبا، نيكولاس شافير مدير مشروعات وخبير بشؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا – المجلس الأطلسي- الولايات المتحدة، آفاق حسين مدير وعضو مؤسس لمكتب بحوث الصناعة والأسس الاقتصادية – الهند، الدكتور أحمد الصفتي مستشار اقتصادي – مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية، وتديرها الدكتورة فاطمة الكربي الباحثة بمركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية.
نسمع اليوم عن المعادن النادرة كمقابل تدفعه أوكرانيا مقابل الاحتفاظ بالولايات المتحدة في صفها بدلا من الميل للروس، وهي ورقة ضغط تجبر بها الصين أمريكا على التراجع عن الجموح في رسومها الجمركية، وهي كذلك محل صفقة ضخمة تجريها واشنطن مع أوغندا.
فالمعادن النادرة ليست مجرد موارد طبيعية، بل هي أدوات نفوذ استراتيجي. وكلما زاد اعتماد العالم على التكنولوجيا الخضراء والرقمية، كلما أصبحت هذه العناصر وقودًا لصراعات مستقبلية.
ما هي العناصر النادرة؟ وما أهميتها؟
المعادن النادرة هي مجموعة مكونة من 17 عنصرًا، تشمل 15 معدنًا أبيض فضي تُعرف باسم اللانثانيدات (أو اللانثانويدات)، بالإضافة إلى السكانديوم والإيتريوم.
وحسب ترتيبها في الجدول الدوري، تشمل العناصر النادرة:السكانديوم، الإيتريوم، اللانثانوم، السيريوم، البراسيوديميوم، النيوديميوم، البروميثيوم، الساماريوم، الأوروبيوم، الغادولينيوم، التيربيوم، الديسبروسيوم، الهولميوم، الإربيوم، الثوليوم، الإيتربيوم، واللوتيتيوم.
ووفق وكالة رويترز، فإن هذه العناصر ليست نادرة بالمعنى الجيولوجي للكلمة؛ فبعضها أكثر وفرة من الرصاص مثلًا. لكنها غالبًا ما تكون موزعة بنسب ضئيلة في قشرة الأرض، وممزوجة بعناصر أو معادن أخرى، ما يجعل العثور على رواسب كبيرة واستخراجها أمرًا صعبًا ومكلفًا.
وتُستخدم هذه العناصر في مجموعة واسعة من المنتجات، من بينها الإلكترونيات الاستهلاكية، والمركبات الكهربائية، ومحركات الطائرات، والمعدات الطبية، وتكرير النفط، وكذلك في التطبيقات العسكرية مثل الصواريخ وأنظمة الرادار.
ويُعد اللانثانوم والسيريوم من أكثر العناصر النادرة شيوعًا. يُستخدم اللانثانوم في عدسات الكاميرات وأنظمة الإضاءة، بينما يُستخدم السيريوم في المحولات الحفازة التي تقلل من انبعاثات محركات الاحتراق. أما النيوديميوم والبراسيوديميوم فهما مطلوبان لصناعة المغناطيسات الدائمة المستخدمة في محركات المركبات الكهربائية وتوربينات الرياح.
ما الدولة الأكبر إنتاجًا للمعادن النادرة؟
تُعد الصين اللاعب الأول بلا منازع في سوق المعادن النادرة، حيث تُنتج نحو 60% من الإنتاج العالمي الخام، وتُسيطر على حوالي 90% من عمليات المعالجة وصناعة المغناطيسات الدائمة.
وتفرض بكين حصصًا صارمة على الاستخراج والتكرير والفصل، وتُراقب هذه العمليات عن كثب، مما يجعلها مؤشرًا حساسًا على وفرة أو شح المعروض العالمي.
وتُعد هذه السيطرة بمثابة ورقة ضغط جيوسياسية فعالة، سبق أن استخدمتها الصين ضد اليابان في أزمة عام 2010، وتستخدمها الآن في إطار توترات مستمرة مع الولايات المتحدة، كان أبرزها في عام 2025، حين لوّحت بكين بتقليص صادراتها كرد على القيود التجارية الأمريكية.
ساحة صراع جيوسياسي في الأعماق
في حين تبدو الصراعات على المعادن النادرة في اليابسة معروفة لمعظم المتابعين، إلا أن ثمة ساحة جديدة للصراع الجيوسياسي تتشكل حاليا في أعماق المحيطات.
فبعد أن كانت قيعان المحيطات بيئة باردة ومظلمة وغير مثيرة للاهتمام، تكشف السنوات الأخيرة عن تحول مذهل: كنز دفين من المعادن النادرة ترسّب عبر ملايين السنين، بدأ يثير شهية الدول والشركات الكبرى، وفقا لتقرير نشرته منظمة “ديبلو” غير الربحية.
وأشارا لتقرير إلى أن تحويل هذا الكنز البحري إلى شريان حيوي لسلاسل الإمداد المستقبلية يبدو أكثر تعقيدًا مما كان مأمولًا.
فالمؤسسة المسؤولة عن تنظيم هذا النشاط هي الهيئة الدولية لقاع البحار (ISA)، وهي هيئة غير معروفة نسبيًا، لكنها تملك ولاية قضائية على ما يقرب من نصف سطح كوكب الأرض. وبموجب اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار (UNCLOS)، فإن الهيئة تُشرف على ما يُعرف بـ”المنطقة” – وهي مساحة شاسعة تتجاوز 54% من محيطات العالم، تُعد “تراثًا مشتركًا للبشرية”.
وما تخفيه هذه المنطقة ليس مجرد رواسب معدنية تقليدية، بل عُقيدات متعددة المعادن تشبه البطاطا المتفحمة، تتكون من طبقات من المعادن الثمينة تراكمت حول بقايا عضوية كأنياب أسماك القرش. وتشمل هذه الرواسب أيضًا الكبريتيدات متعددة المعادن وقشور الفيرومغنيز الغنية بالكوبالت.
تكمن الأهمية الاستراتيجية لهذه الرواسب في احتوائها على عناصر أساسية لعصر الطاقة النظيفة مثل: الليثيوم، الكوبالت، النيكل، المنغنيز، والمعادن الأرضية النادرة، وهي ضرورية لصناعة السيارات الكهربائية، أنظمة توليد طاقة الرياح، البطاريات، الهواتف الذكية، والمعدات الطبية والعسكرية.
لكن التعدين في أعماق البحار ليس نشاطًا تقليديًا، بل عملية بالغة التعقيد تتطلب تقنيات متقدمة وتكاليف ضخمة للوصول إلى أعماق تمتد لعدة آلاف من الأمتار تحت سطح البحر.
قانون غامض وساحة صراع مفتوحة
منذ عام 2014، لم تتمكن الهيئة الدولية لقاع البحار من إصدار مجموعة نهائية من القواعد والضوابط العلمية لتنظيم التعدين في الأعماق. وفي 2021، فجّرت دولة ناورو الصغيرة مفاجأة حين طالبت الهيئة بموعد نهائي لإقرار اللوائح، تمهيدًا لبدء عمليات التعدين عبر شركة كندية تُدعى The Metals Company.
ورغم إجراء تجارب ناجحة في انتشال العقد المعدنية عبر أنظمة روبوتية، ما زال العالم يراوح في فراغ قانوني غامض.
الولايات المتحدة، من جهتها، ليست عضوًا في اتفاقية UNCLOS، لكنها أصدرت قرارًا تنفيذيًا في أبريل/ نيسان 2025 يُشجع على استغلال الموارد البحرية في نطاقها الإقليمي وخارجه، ما يُعد تجاوزًا للنظام القانوني الدولي.
ويُثير هذا تحذيرات من تصعيد دولي، حيث قد تُصنف المنتجات الأمريكية المستخرجة من الأعماق على أنها “غير شرعية” من قبل الدول الأعضاء في ISA.
سباق من اليابسة إلى الأعماق
وفقًا لوكالة الطاقة الدولية (IEA)، من المتوقع أن يرتفع الطلب على المعادن الحيوية بنسبة تتراوح بين 100% و500% بحلول عام 2040، مدفوعًا بالتحول العالمي نحو الطاقة الخضراء.
لكن المفاجأة تكمن في أن قاع المحيطات يحتوي على كميات من الكوبالت تفوق ما في اليابسة بست مرات، ومن النيكل بثلاث مرات، ومن الإيتريوم بأربع مرات!
لهذا، تُعد منطقة كلاريون–كليبرتون (CCZ) في وسط المحيط الهادئ، والتي تُشرف عليها الهيئة الدولية، واحدة من أكثر المناطق جذبًا للاهتمام، إذ تغطي نحو 4.5 مليون كيلومتر مربع، ما يجعلها بحجم الاتحاد الأوروبي تقريبًا.
والصين تتصدر السباق، وتملك خمس رخص بحث من أصل 31 رخصة أصدرتها الهيئة، وهي الدولة الأكثر تقدمًا في تطوير تقنيات التعدين في الأعماق.
أما فرنسا وقرابة 30 دولة – معظمها أوروبية – فتطالب بـ”تجميد احترازي” للتعدين في البحار، خوفًا من التأثير البيئي.
فيما الولايات المتحدة تسعى للالتفاف على النظام الدولي وبدء التعدين بصورة أحادية، مما قد يشعل صراعًا قانونيًا وسياسيًا.
كذلك، فإن شركات كبرى مثل BMW وغوغل وفولفو أعلنت التزامها بعدم استخدام معادن مستخرجة من قاع البحر، إلى حين اتضاح التأثير البيئي.
منتدى هيلي الدولي
تحت شعار: «إعادة ضبط النظام الدولي: التجارة والتكنولوجيا والحوكمة»، تنطلق النسخة الثانية من «منتدى هيلي» السنوي في أبوظبي.
ويستضيف مركز الإمارات للدراسات والبحوث الاستراتيجية بالتعاون مع أكاديمية أنور قرقاش الدبلوماسية، في منتجع سانت ريجيس بجزيرة السعديات، فعاليات المنتدى خلال يومي 8 و9 سبتمبر/أيلول الجاري، وذلك بمشاركة نخبة من كبار المسؤولين وصنّاع القرار والدبلوماسيين والخبراء والمفكرين.
ويهدف منتدى هيلي الذي يُعقد في إطار الاهتمام المشترك بدراسة التحولات الإقليمية الكبرى التي تعيد رسم معالم المشهد العالمي، إلى إثراء النقاشات الاستراتيجية في دولة الإمارات وتقديم إضافات علمية وبحثية، والإسهام في تحديد ملامح البيئة العالمية في ظل التحولات السريعة والعميقة التي تعيد تشكيل المشهد العالمي خلال المرحلة الحالية.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز