اتجاهات مستقبلية

اتجاهات مستقبلية
سيناريوهات ما بعد السيطرة الإسرائيلية على غزة!
يتسارع المشهد الفلسطيني بصورة تجعل من العصي على كثير من المتابعين توقع تبعاته لتعقد متغيراته، وتبرز خطة السيطرة الإسرائيلية على قطاع غزة كتحول استراتيجي يحمل أبعادًا أمنية وسياسية وإنسانية بالغة التعقيد. وقد كشفت التقارير الإعلامية عن تفاصيل هذه الخطة، التي تتضمن مراحل زمنية محددة واستعدادات عسكرية ولوجستية تهدف إلى فرض واقع جديد في القطاع. إذ أشارت تقارير إلى أنها قد تمتد إلى نصف عام على الأقل، وذلك وفقًا لجدول زمني يبدأ خلال أسبوعين بإخلاء تدريجي لسكان شمال القطاع نحو “مناطق إنسانية” في جنوبه، وتبدأ المرحلة الأولى من العملية بنقل أكثر من 800 ألف فلسطيني من مدينة غزة إلى منطقة المواصي، وهو ما يُتوقع أن يستغرق ما لا يقل عن 45 يومًا وفقًا للتقديرات.
وعليه تأتي هذه الخطة في سياق ديناميكيات إقليمية ودولية متشابكة، ما يستدعي تحليلًا معمقًا للسيناريوهات المحتملة التي قد تنجم عن تنفيذها، سواء على مستوى الداخل الفلسطيني أو على صعيد العلاقات الفلسطينية- الإسرائيلية، وكذا العربية الإسرائيلية، فضلًا عن انعكاساتها على الأمن الإقليمي والاستقرار الدولي.
فأمنيًّا؛ من المرجح أن يؤدي تنفيذ الخطة إلى تعزيز الوجود العسكري الإسرائيلي داخل غزة، مما قد يفضي إلى مواجهات مسلحة طويلة الأمد مع الفصائل الفلسطينية، ولا سيما في ظل غياب تسوية سياسية شاملة. هذا التصعيد قد ينعكس سلبًا على الأمن الداخلي الإسرائيلي، ويزيد من حالة عدم الاستقرار في المنطقة برمتها، كما يفتح الباب مليًّا لتنامي النزعات المتطرفة في كلا الجانبين. أما سياسيًّا؛ فتطرح الخطة تساؤلات جوهرية حول مستقبل الحكم في غزة، خاصة في ظل ما أُثير سابقًا عن احتمالات فرض إدارة مدنية بديلة، وهو ما يخلق عبئًا مضاعفًا على أي طرف يتحمل المسؤولية بعد انقضاء خطة السيطرة الإسرائيلية. كما قد يقوض ما تبقى من أي آمال تتعلق بجهود المصالحة الفلسطينية ويُعمق أزمة السلطة الفلسطينية وشرعيتها في الشارع الفلسطيني، وعليه سيؤثر ذلك جوهريًّا على أية احتمالات لاستئناف المفاوضات السياسية.
من ناحية أخرى، إذا كانت الخبرات السابقة للجيوش تشير إلى الحاجة لنحو 20- 25 جنديًّا للسيطرة على 1000 مدني، فإن ذلك يعني حاجة إسرائيل إلى نشر 40- 50 ألف جندي (فرقتين عسكريتين) للسيطرة على قطاع غزة. بل وقد تحتاج إلى أعداد أكبر في حال إذا أطلق الغزاويون انتفاضة واسعة النطاق كالانتفاضتين الأولى والثانية. ومن أجل تفادي الدوائر الإسرائيلية لهذا الخطر ولأغراض تخفيف التكاليف الاقتصادية والعسكرية، من المرجح أن تنفذ إسرائيل إعادة احتلال غزة جزئيًّا فقط، مما يعني استمرار الفراغ الأمني، وتدهور الظروف الإنسانية في ظل الافتقار المستمر لسلطة حاكمة مستقرة. كما قد تتضمن الاستراتيجية الإسرائيلية لتخفيف التكاليف، زيادة حصر السكان المدنيين الفلسطينيين في مناطق خارج سيطرة الجيش الإسرائيلي. وتجنب دمج القوات العسكرية الإسرائيلية في النسيج الأمني المدني في غزة، على عكس الضفة الغربية. أيضًا من المرجح أن تُؤخر إسرائيل جهود إعادة الإعمار المهمة في غزة.
هذه الإجراءات قد تعني في المقام الأخير، استمرار الفراغ الأمني والاقتصادي حتى مع إعلان غزة تحت الاحتلال الإسرائيلي الكامل، وتمكين خلايا حماس من مواصلة عملياتها وهجماتها ضد القوات الإسرائيلية، واستمرار تفاقم الأزمة الإنسانية ووصول السكان إلى شفا المجاعة. فنتيجة للعمليات العسكرية وتقييد حركة المنظمات الإغاثية، ستتصاعد التحديات أمام مواصلة الجهود الإغاثية، كالجهود الإماراتية الحيثية عبر استمرار عمليات الإنزال الجوي للمساعدات والمستشفى العائم أمام العريش، مما ينال من مردود هذه الجهود ويهدر مستهدفاتها في تخفيف المعاناة الإنسانية في الداخل.
من ناحية ثالثة، تفتح هذه العملية الإسرائيلية الباب على مصراعيه أمام مواصلة بعض الإسرائيليين اليمينيين المتطرفين تأييدهم لكل من تهجير الفلسطينيين قسرًا، والاستيلاء العسكري الإسرائيلي الفعلي على السلطة في غزة. صحيح أن عدم شعبية إعادة احتلال غزة، في الداخل الإسرائيلي قد يشير إلى احتمال أن تُجبر أي حكومة إسرائيلية ستنبثق عن انتخابات أكتوبر عام ٢٠٢٦، على تغيير استراتيجيتها، لكن تزايد الخلاف حول مستقبل غزة بعد الحرب قد يجعل من أي تغيير يُحدثه خليفة نتنياهو غير جوهري، حيث يتراوح بين إطالة أمد الاحتلال المفتوح للسيطرة على غزة وتغيير تركيبتها السكانية، أو انسحاب فوضوي يُعيد خلق الظروف الأمنية التي أدت في البداية إلى صعود حماس.
في النهاية؛ يبدو أن خطة السيطرة الإسرائيلية على غزة لا تمثل مجرد إجراء عسكري أو أمني، بل هي خطوة تحمل في طياتها تداعيات استراتيجية قد تعيد تشكيل المشهد الإقليمي برمّته. وأن هذه الخطة إذا ما تم تنفيذها وفقًا لما هو معلن، قد تفتح الباب أمام سلسلة من الأزمات المتداخلة، تبدأ من الداخل الفلسطيني، وتمتد للداخل الإسرائيلي، وتعبرهما وصولًا للعلاقات الدولية.
وعليه يمكن القول: تبرز الحاجة إلى مقاربة شاملة تأخذ بعين الاعتبار الأبعاد السياسية والأمنية والإنسانية، وتُبنى على أسس الحوار والتفاهم وركائز عملية السلام والشرعية الدولية، لا على منطق القوة والسيطرة. فغزة، بما تمثله من رمزية وطنية وإنسانية، لا يمكن أن تُدار بمنطق التجريب العسكري، بل تحتاج إلى رؤية استراتيجية تُعيد للإنسان الفلسطيني حقه المسلوب، وتكون مدخلًا لسلام إقليمي شامل يجنب الجميع تبعات غيابه المكلفة.