اسعار واسواق

القنوات الخلفية.. كيف نجح لوكاشينكو في ترتيب قمة بوتين وترامب؟


في عالم السياسة الدولية، كثيرا ما تتحدد مصائر الشعوب والحروب بعيدا عن قاعات المؤتمرات المزدحمة، بل في ممرات ضيقة وأحاديث هامسة لا يعرفها إلا القليل.

فخلف الكواليس، حيث تتقاطع المصالح مع الطموحات الشخصية، وحيث تتلاشى الحدود بين الدبلوماسية والمغامرة، ظهرت مؤخرا قصة مثيرة تحمل كل سمات الرواية السياسية المعقّدة.

وترسم الوثائق التي كشفتها صحيفة “بوليتكو” الأمريكية صورة لقناة خلفية سرية، لم تمر عبر السفراء أو وزارات الخارجية، بل عبر شبكة معقدة من الوسطاء غير الرسميين، هدفها ترتيب لقاء قد يقلب موازين الحرب في أوكرانيا، أو على الأقل يغير اتجاه الرياح السياسية في واشنطن وموسكو.

ويستعد الرئيس الأمريكي دونالد ترامب للقاء نظيره الروسي فلاديمير بوتين في ألاسكا، في أول قمة تجمعهما منذ عام 2019، وأول اجتماع بين رئيسي الولايات المتحدة وروسيا منذ 2021.

البداية: إشارات من مينسك

تعود القصة إلى أواخر عام 2023، حين بعث ألكسندر لوكاشينكو، الرئيس البيلاروسي، بإشارات غير مباشرة إلى دوائر مقربة من ترامب.

لوكاشينكو، الذي عرف دائما كيف يوازن بين انتمائه العميق إلى موسكو وحرصه على الإبقاء على خطوط اتصال مع الغرب، كان يرى في تلك اللحظة فرصة تاريخية.

وكان الحلفاء التقليديون للكرملين يتقلصون، والعقوبات الغربية على بيلاروسيا تخنق اقتصاده، أما واشنطن فكانت غارقة في جدل داخلي حول استمرار دعمها العسكري والمالي لكييف.

المصادر تشير إلى أن هذه الاتصالات لم تجرِ عبر أي مسار دبلوماسي رسمي، فلم تكن هناك برقيات رسمية، ولا اجتماعات معلنة.

كان كل شيء يتم بصوت خافت، عبر رجال أعمال ووسطاء سياسيين لا يشغلون أي مناصب حكومية، وهو ما يعرف في لغة العلاقات الدولية بـ”القناة الخلفية”.

رهانات الأطراف الثلاثة

بالنسبة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يخوض أطول مواجهة عسكرية وسياسية مع الغرب منذ انهيار الاتحاد السوفياتي، كان مجرد التفكير في لقاء مع ترامب يفتح بابًا على احتمالات مغرية. فترامب، بخطابه الناقد لاستمرار الحرب ودعوته المتكررة لوقف الدعم لأوكرانيا، بدا – من منظور الكرملين – شخصية قد تمنح روسيا فرصة لتثبيت مكاسبها الميدانية.

أما ترامب نفسه، فربما رأى في الأمر فرصة ذهبية لارتداء عباءة “صانع الصفقات” من جديد، وهي الصورة التي روّج لها طيلة مسيرته السياسية. فالتوصل إلى تفاهم، أو حتى إعطاء الانطباع بوجود إمكانية لذلك، سيعزز روايته بأنه الرجل القادر على إنهاء الحروب عبر التفاوض المباشر.

وبالنسبة للوكاشينكو، فالمكاسب متعددة. فلعب دور الوسيط بين أكبر قوتين نوويتين في العالم سيعيد وضعه على الخريطة السياسية الدولية، وربما يفتح ثغرة في جدار العقوبات الأوروبية والأمريكية، ويمنحه أوراق ضغط إضافية على موسكو التي تعتمد بلاده عليها اقتصاديًا وأمنيًا.

التحركات في الظل

التقرير يكشف أن الاتصالات شملت شخصيات أمريكية ذات علاقات وثيقة بترامب، إضافة إلى رجال أعمال بيلاروسيين على صلة بدوائر القرار في مينسك.

هذه اللقاءات غير المعلنة كانت تدور في مدن أوروبية وأحيانًا عبر وسطاء من دول ثالثة، لتجنب أي أثر مباشر قد يكشف عن التحرك.

ويرى خبراء العلاقات الدولية أن مثل هذه القنوات ليست غريبة عن السياسة، بل لعبت دورًا تاريخيًا في إنهاء أزمات كبرى – من مفاوضات السلام في فيتنام، إلى الترتيبات السرية التي مهدت لزيارة ريتشارد نيكسون إلى الصين عام 1972. لكنهم يحذرون في الوقت نفسه من أن استخدامها في خضم حملة انتخابية أمريكية يجعلها قنبلة سياسية موقوتة.

العقبات والمخاطر

رغم الحماس المبدئي، كانت العقبات هائلة. إدارة جو بايدن، التي كانت تلملم أوراقها، والتي تبنت سياسة صارمة تجاه موسكو، كانت ستنظر إلى أي تحرك من هذا النوع كتهديد مباشر لنهجها في دعم أوكرانيا.

كما أن أي تسريب حول لقاء وشيك بين ترامب وبوتين كان سيشعل جدلا عاصفا في الداخل الأمريكي، مع اتهامات محتملة بالتنسيق مع قوة أجنبية معادية، خاصة في ظل إرث الاتهامات القديمة حول التدخل الروسي في انتخابات 2016.

علاوة على ذلك، بدا أن الطرفين الروسي والأمريكي يعلمان أن لحظة التوقيت ليست مثالية. فبوتين كان منشغلًا بتحصين جبهاته العسكرية والدبلوماسية، بينما كان ترامب يواجه معارك قضائية وإعلامية متواصلة.

في النهاية، لم تتجاوز الفكرة حدود “جس النبض”. ولم تُحدد مواعيد، ولم تُحجز قاعات للقمة، ولم يُعلن أي شيء رسمي.

لكن مجرد وجود هذه القناة الخلفية يكشف أن لعبة السياسة الدولية ليست مجرد بيانات رسمية وتصريحات متلفزة، بل هي في كثير من الأحيان لعبة شطرنج معقدة، تتحرك فيها القطع في صمت حتى يحين وقت الضربة الكبرى… أو حتى تتبدد الفرصة.

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى