اسعار واسواق

من المناخ إلى الإهمال.. لماذا تزداد حرائق الغابات في جنوب فرنسا؟


حرائق الغابات في جنوب فرنسا لم تعد تقتصر على الصيف، بل تمددت لتشمل فصولًا أخرى، في ظل تصاعد درجات الحرارة، وشحّ الأمطار.

يشهد جنوب فرنسا في العقود الأخيرة تصاعدًا مقلقًا في وتيرة وشدة حرائق الغابات، حتى باتت هذه المنطقة تُصنّف من بين أكثر المناطق عرضة لهذا الخطر في أوروبا.

ووفقًا لبيانات هيئة الأرصاد الفرنسية “ميتيو فرانس”، فقد ازدادت المساحات التي التهمتها النيران بنسبة تقارب 30% خلال العقدين الماضيين، حيث دُمّر أكثر من 470 ألف هكتار بين عامي 2003 و2023، وهي مساحة تعادل تقريبًا حجم محافظة فرنسية كاملة.

حرائق غير موسمية تهدد غابات فرنسا

وقالت صحيفة لابروفانس الفرنسية إن هذه الظاهرة، التي كانت ترتبط تقليديًا بموسم الصيف فقط، بدأت تتمدد زمنيًا لتشمل فصلي الربيع والخريف، ما يؤكد أن تقويم الخطر لم يعد موسميًا فحسب، بل صار ممتدًا على مدار نصف العام تقريبًا.

ويعزو الخبراء هذا التصاعد إلى مجموعة من العوامل المتشابكة، في مقدمتها التغيرات المناخية الحادة التي يعرفها حوض البحر الأبيض المتوسط، والذي يُصنّف من قبل المجتمع العلمي ضمن “النقاط الساخنة” عالميًا من حيث شدة ظواهر الاحتباس الحراري.

وشهدت درجات الحرارة السنوية في هذه المنطقة ارتفاعًا يفوق المتوسط الوطني، متجاوزة عتبة درجتين مئويتين منذ مطلع الألفية، مترافقة مع تراجع كبير في كميات الأمطار، ما أدى إلى خلق عجز مائي هيكلي وحوّل غابات الجنوب إلى ما يشبه مستودعات قابلة للاشتعال بمجرد توفر الشرارة.

تحت هذا المناخ المتطرف، تصبح النباتات المتوسطية مثل الصنوبر والبلوط الأخضر هدفًا سهلًا للنيران، خاصةً مع تكرار موجات الجفاف التي تضعف مقاومتها وتترك خلفها كميات كبيرة من الخشب الميت.

وقد أدت هذه الظروف إلى ما يصفه المتخصصون بـ”التأثير التراكمي”، حيث تترك كل موجة حر وغابة محترقة خلفها أرضًا أكثر هشاشة وأشجارًا أقل قدرة على النجاة في وجه الحرائق القادمة، وهو ما رأيناه بشكل جلي في سلسلة حرائق مناطق مثل سانت بوم في عام 2022.

حرائق الغابات في جنوب فرنسا

أسباب حرائق الغابات في فرنسا

ولا يمكن الحديث عن حرائق الجنوب دون التوقف عند العامل البشري، الذي تؤكد الإحصاءات الرسمية أنه يقف خلف أكثر من 90% من الحرائق المسجلة.

فالإهمال، مثل رمي أعقاب السجائر أو إشعال النيران لأغراض ترفيهية دون اتخاذ الاحتياطات، يُعدّ أحد الأسباب المتكررة. كما أن الزحف العمراني نحو المناطق الحرجية، كما هو الحال في ضواحي مرسيليا، خلق واجهات تلامس فيها الغابات الأحياء السكنية، مما يضاعف خطر نشوب الحرائق وانتشارها. إضافة إلى ذلك، فإن الضغط السياحي الكبير خلال أشهر الصيف، والذي يضاعف عدد السكان في بعض القرى الساحلية، يسهم بدوره في رفع احتمالية اندلاع الحرائق.

المناخ الجاف والرياح العنيفة، خصوصًا “الميسترال” و”الترامونتان”، تُعدّ من العوامل المتسارعة في انتشار النيران على مساحات واسعة خلال وقت قصير، وقد أظهرت أحداث السنوات الأخيرة كيف يمكن لحريق واحد أن يمتد على آلاف الهكتارات في غضون ساعات.

فحادثة حريق “لو لوكانيه” عام 2019، التي أتت على أكثر من 4000 هكتار من غابات منطقة المور خلال نصف يوم فقط، مثال صارخ على هشاشة الوضع البيئي في الجنوب.

واللافت في السنوات الأخيرة هو أن خطر الحرائق لم يعد حكرًا على الجنوب. فقد امتد التهديد إلى مناطق كانت تُعتبر تاريخيًا آمنة، مثل بريتاني وبيري. ففي صيف 2022، اندلع حريق غير مسبوق في غابة بروسيلياند، كما شهدت منطقة جيروند دمارًا واسعًا طال أكثر من 21 ألف هكتار.

وهذا التمدد الجغرافي يؤشر إلى تحوّل في طبيعة المناخ الفرنسي، ويجعل من الضروري تطوير سياسات وطنية تتعدى تركيزها التقليدي على حوض المتوسط.

حرائق الغابات في جنوب فرنسا

عوامل تحوّل غابات فرنسا إلى وقود للنار

بيئيًا، لا تقتصر الكارثة على التدمير الفوري للغطاء النباتي، بل تشمل كذلك عواقب مناخية خطيرة. فكل حريق كبير يطلق كميات ضخمة من ثاني أكسيد الكربون، ما يؤدي إلى تفاقم الاحترار المناخي وتآكل قدرة الغابات على امتصاص الكربون، وهو ما يعمّق الأزمة البيئية في البلاد ويؤثر سلبًا على التنوع البيولوجي، التربة، والمياه الجوفية.

كما أن التأثير الاقتصادي لا يقل خطورة، فخسائر القطاع السياحي والزراعي، إضافة إلى كلفة إعادة التأهيل البيئي، تثقل كاهل الدولة والمجتمعات المحلية.

أمام هذا المشهد المتفاقم، تصبح الحاجة إلى إصلاح جذري في إدارة الغابات أكثر إلحاحًا. من الضروري اعتماد سياسات زراعية وغابية تراعي المتغيرات المناخية، مثل زراعة أصناف أشجار أكثر مقاومة للجفاف، وإنشاء ممرات مضادة للنيران (Pare-feux)، وتحديث وسائل المراقبة عبر الأقمار الصناعية والطائرات بدون طيار.

كما يُعد رفع الوعي المجتمعي وتشديد الرقابة في مواسم الخطر من أدوات الوقاية الأساسية، إلى جانب دعم فرق الحماية المدنية بالمعدات والموارد البشرية الكافية لمواجهة تحديات السنوات المقبلة.

وما يشهده جنوب فرنسا اليوم من تصاعد في حرائق الغابات ليس حدثًا معزولًا، بل هو نتيجة تداخل معقّد بين العوامل المناخية والبيئية والبشرية. وإذا لم تُتخذ تدابير وقائية حازمة واستباقية، فإن هذه الحرائق لن تبقى في الجنوب فقط، بل ستتحول إلى أزمة وطنية تطال كل أطراف البلاد. الاستجابة المستقبلية يجب أن تكون شاملة وطموحة، تجمع بين الوقاية والتأقلم، لحماية الغابات الفرنسية من التحوّل إلى رماد دائم.

aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز NL

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى