أوروبا تبتلع «الحبة المرة».. بروكسل تدفع وواشنطن تحصد في أغرب اتفاق تجاري

في وقت كانت فيه أوروبا تلوح بإجراءات انتقامية وفرض رسوم جمركية مضادة ردًا على التصعيد التجاري الأمريكي، جاء الاتفاق الأخير مع واشنطن ليكشف عن تراجع مفاجئ من جانب الاتحاد الأوروبي، دون أن يحصد أي مكاسب تذكر.
اتفاق غير متوازن، وصفه خبراء اقتصاديون بأنه “فخ دبلوماسي”، يخفض الرسوم الأمريكية، بينما يفرض على الأوروبيين شروطًا مرهقة بلا أي ضمانات مقابلة. فما الذي حدث في كواليس هذا التفاهم؟ وهل أوروبا فعلاً “تنازلت” بلا مقابل؟
في تطور أثار كثيرًا من التساؤلات داخل الأوساط الأوروبية، تم توقيع اتفاق تجاري جديد بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، يُظهر خللًا واضحًا في توازن المصالح. فرغم أن الأوروبيين وافقوا على رفع الرسوم الجمركية إلى 15%، فإن الولايات المتحدة لم تُقدِّم بالمقابل أي خطوات متوازنة، حيث بقيت الرسوم الأمريكية على المنتجات الأوروبية شبه معدومة، بل مرشحة للانخفاض أكثر.
الاتفاق، وفق القراءة الأولية، جاء لصالح الولايات المتحدة بالكامل. وبينما ابتلع الاتحاد الأوروبي “الحبة المرة”، لم يطالب بأي مقابل يُذكر من الجانب الأمريكي. ويبدو أن كل ما كانت بروكسل تلوّح به من إجراءات “انتقامية” في الأسابيع الماضية، قد تم التراجع عنه في اللحظات الأخيرة.
أوروبا تخلّت عن الرد بالمثل
بحسب إريك دور، مدير الدراسات الاقتصادية في معهد IESEG، “لم تُدرج أي إجراءات انتقامية ضمن الاتفاق، وهذا ما يجعله غير متوازن تمامًا”، مضيفاً أن التهديد الأمريكي بفرض رسوم جمركية تصل إلى 30% كان جديًا، ما دفع الاتحاد إلى اختيار طريق التفاوض بدل المواجهة، بحسب محطة “بي.إف.إم” التلفزيونية الفرنسية.
لكن هذا التراجع يعكس أيضًا الانقسام داخل الاتحاد الأوروبي؛ فبينما كانت بعض الدول تدفع باتجاه اتخاذ موقف صارم، فضّلت دول أخرى، خصوصًا في شرق أوروبا التي لا تزال تعتمد أمنيًا على الحلف الأطلسي، اتباع نهج التهدئة.
رغم رفع الرسوم على الصادرات الأوروبية، لم يشهد الجانب الأمريكي أي إجراءات مشابهة. بل على العكس، يُتوقع أن تنخفض الرسوم الجمركية المفروضة على المنتجات الأمريكية إلى أقل من 1% بفضل ما يسمى بـ”تعريفة صفر مقابل صفر”.
ووفقًا لبرونو دي مورا فرنانديز، مدير الأبحاث الاقتصادية في “كوفاس”، فإن بعض السلع الأمريكية، مثل السيارات، كانت تخضع لرسوم بسيطة أو معدومة أصلاً بموجب اتفاقات التجارة الحرة، وهذا النهج مستمر.
الأمر المفارِق أن الاتحاد الأوروبي، الذي رد في السابق على تهديدات ترامب بفرض رسوم على فول الصويا والدواجن، تخلى الآن عن هذا الخط الدفاعي. وكأن نسبة 15% من الرسوم باتت مقبولة فجأة.
لكن كما يشير فرنانديز، فإن الأثر الحقيقي لتلك الرسوم على السوق الأمريكية قد يكون محدودًا، إذ إن المستوردين والموزعين في الولايات المتحدة غالبًا ما يتحملون النسبة الأكبر منها، إما بتحميلها للمستهلك أو عبر تقليص هوامش أرباحهم.
تجميد الإجراءات الانتقامية
التحوّل الكبير هو أن بروكسل وبعد أن أقرت في 23 يوليو/تموز حزمة من الإجراءات الانتقامية شملت رسومًا تصل إلى 30% على ما يقارب 100 مليار يورو من الواردات الأمريكية، قررت فجأة إيقاف تنفيذها.
كما كانت هناك خطط لحظر تصدير نفايات الحديد والألمنيوم إلى الولايات المتحدة اعتبارًا من 7 سبتمبر/أيلول 2025. لكن مع توقيع الاتفاق الجديد في اسكتلندا، تم تجميد كل تلك الإجراءات ووضعها على الرف.
الإعفاءات الخاصة
في ظل هذا التراجع، تسعى بروكسل الآن للحصول على أكبر عدد ممكن من “الإعفاءات النوعية” من الرسوم. فبعد نجاحها في ملف الطيران، تتجه الأنظار إلى مفاوضات جديدة بشأن النبيذ والمشروبات الروحية، والتي تمثل نحو 30% من الصادرات الأوروبية.
أما بالنسبة للقطاع الدوائي، فالمعركة أصعب، إذ لا تزال نتائج التحقيق الأمريكي الجاري حوله غير واضحة، ويُتوقع أن تُعلن القائمة النهائية للسلع المعفاة نهاية الأسبوع الجاري.
التزامات أوروبية بلا ضمانات تنفيذ
المفارقة أن الاتحاد الأوروبي لم يكتفِ برفع الرسوم، بل أضاف على نفسه التزامات إضافية تشمل شراء كميات من الوقود الأحفوري والنووي من الولايات المتحدة، وتوجيه استثمارات إضافية بقيمة 600 مليار يورو نحو قطاعات الدفاع والأمن.
لكن المحللين يؤكدون أن هذه الالتزامات غير مُلزِمة فعليًا. فكما يشير فرنانديز، “المفوضية الأوروبية لا تملك سلطة مباشرة على قرارات الشراء الوطنية، والدول الأعضاء ليست ملزمة قانونيًا بتنفيذ تلك التعهدات”. ويستشهد بحالة مشابهة في 2018 حين وقعت الصين اتفاقًا مشابهًا ولم تلتزم به.
مصير الاتفاق لا يزال معلقا
رغم توقيع الاتفاق، لا يزال بحاجة لمصادقة أغلبية الدول الأعضاء داخل الاتحاد الأوروبي، وهو ما قد يُواجه عقبات سياسية، خاصة مع تزايد الانتقادات في الصحافة الأوروبية. قد تؤدي التعقيدات الداخلية إلى تأخير طويل في المصادقة، وربما تمتد لما بعد انتهاء ولاية الرئيس الأمريكي دونالد ترامب.
وفي فرنسا تحديدًا، التي تنتمي للمعسكر المتشدد، يبدو أن الاتفاق شكّل صدمة. ومن المقرر أن يستقبل وزير الاقتصاد ممثلي القطاعات المتأثرة يوم الأربعاء المقبل في باريس لمناقشة تداعياته، والبحث في سبل التخفيف من آثاره.
بينما كان من المتوقع أن تُظهر أوروبا موقفًا أكثر صرامة في مواجهة السياسات التجارية الأمريكية، جاء الاتفاق الأخير ليثير علامات استفهام حول موقع الاتحاد الأوروبي في المعادلة الدولية. إذ اختار نهج التهدئة، من دون ضمانات أو مكاسب واضحة، مما يطرح تساؤلات جوهرية حول قدرته على الدفاع عن مصالحه الاقتصادية في المستقبل.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز