كلمة لا يسرقها الزيف.. هل يبحث الإعلام العربي عن الحقيقة؟

المشهد المجتمعي بين زحف المعلومات المضللة ومحاولات الإنقاذ
في عام 2025، يقف العالم أمام موجة من المعلومات الزائفة التي تكتسح الفضاء الرقمي، ليس فقط بسبب سرعة انتشارها،
بل بفعل شحناتها العاطفية التي تجذب الانتباه وتؤثر في الرأي العام. لم تعد هذه الظاهرة مقصورة على السياسة، بل طالت الصحة العامة والاقتصاد والفنون والتوترات الدولية.
بحسب تقديرات DemandSage، ما يقرب من 62% من المحتوى الذي يجوب فضاءات الإنترنت مهدد بالخطأ، فيما يعترف 80% من المستخدمين بأنهم وقعوا في فخ مشاركة معلومات اتضح لاحقًا زيفها، وفق بيانات Gitnux و1Worldmetrics. في هذا الطوفان الهائج من البيانات، أصبحت الحقيقة سلعة نادرة، تتلاشى تحت سطوة محتوى يتحرك بسرعة البرق، تغذيه شحنات الفضول وردود الأفعال، لا ميزان الدقة والمصداقية.
ولم ينجُ الإعلام من هذا الزلزال؛ فالمحررون يجدون أنفسهم في معركة يومية مع التحقق، بعدما فقدوا صلابة المصادر التقليدية. ومع اشتداد المنافسة وتعدد المنصات، تحولت مهمة التمييز بين الخبر الصادق والزائف إلى سباق معقد، تضاعفه وفرة المصادر وتشتتها، وتُربكه المؤشرات الاجتماعية المنحازة، ليغدو البحث عن الحقيقة تحديًا يزداد وعورة كل يوم.
إشكالية إنتاج الأخبار الزائفة
لم تولد الأخبار الزائفة من رحم العصر الرقمي، بل سبقت الإنترنت بزمن، إذ كانت أداةً شائعة في الحملات الدعائية التي تقودها الحكومات أو الشركات الكبرى. غير أن المصطلح ذاته لم يكتسب زخمه إلا بعد احتجاجات كانون الأول/ديسمبر 2010 التي فجرت ما عرف بالربيع العربي، حين تداخلت الحقائق مع الشائعات والخطابات المشحونة بالعاطفة. في تلك البيئة الجديدة، غدت «الحقيقة» أمرًا هامشيًا، لتتربع العاطفة على العرش، بينما التقطت الجماعات السياسية والنشطاء هذه الشائعات وأعادت تدويرها في فضاءات التواصل الاجتماعي حتى صارت «حقائق» راسخة في المخيلة العامة.
وتشير الدراسات إلى أن «فبركة الأخبار» هي الشكل الأكثر شيوعًا للتضليل في الإعلام العربي، وقد تضاعف خطرها مع سباق وسائل الإعلام وراء «النقرات»، لتقع بعض المنابر في فخ نشر الأخبار المفبركة عمدًا أو نتيجة ضعف التحقق. ففي مصر وحدها، رصد المجلس الأعلى لتنظيم الإعلام 74 ألف خبر مفبرك خلال شهر واحد.
أسهمت ظروف العمل الصحفي القاسية في تعميق الأزمة؛ إذ باتت بعض المؤسسات توظف الصحفيين بناءً على قدرتهم على اجتذاب القراء لا على جودة إنتاجهم. كما يعتمد الصحفيون الجدد على مصادر من مستخدمي الإنترنت لجمع الأخبار بسرعة، ما أدى إلى «التغطية المتسرعة» التي تقدم الأخبار في سياقات غير دقيقة، أو تفسرها بشكل مغلوط لتخدم سرديات بلا أساس واقعي.
وكشفت الأبحاث أن نحو 75% من مشاركات فيسبوك تتم دون قراءة المحتوى كاملًا، وفق Reddit، حيث يكتفي المستخدمون بالعناوين أو الملخصات السريعة قبل إعادة النشر، مما يفتح الأبواب أمام انتشار التضليل على نطاق واسع. أما التجارب النفسية فأظهرت أن الأفراد الذين يسعون لتأكيد نفوذهم الاجتماعي أو التأثير على الآخرين أكثر ميلًا لنشر المعلومات الزائفة عمدًا، حتى وهم يدركون زيفها، وهو ما أكدته دراسات Reddit وMIT Sloan.
العاطفة محرك أساسي للتضليل
أظهرت دراسة نُشرت في شباط/فبراير 2025 أن المحتوى المشحون بالعاطفة يحظى بأولوية في الانتشار، إذ تمنحه خوارزميات المنصات الرقمية مكانة متقدمة بناءً على معدلات التفاعل لا على دقته. وفي ظل التدفق الفوري للأخبار، تحولت هذه المنصات إلى أرض خصبة للأخبار الزائفة؛ حيث تُنتَج المعلومات المضللة وتُوزّع على نطاق واسع من عناوين إلكترونية يصعب تتبّعها، مستفيدة من قدرتها على اجتذاب ملايين المتابعين، لتصبح قناة مثالية لانتشار المحتوى «الفيروسي» العابر للحدود بسرعة فائقة.
ولا يجري التضليل عشوائيًا؛ بل هو استراتيجية منسقة تستغل «فراغات البيانات» لنشر الأكاذيب بسرعة، خصوصًا في أوقات الأزمات. فقد كشفت دراسة MIT Sloan أن الأخبار الزائفة تحصد ضعف المشاركات مقارنة بالحقيقية، وتصل إلى أول 1500 شخص في نصف الوقت، فيما ينتشر المحتوى المضلل أسرع بستة أضعاف من الأخبار الموثوقة، مدفوعًا بمشاعر الخوف والغضب التي تحفّز المشاركة التلقائية بنسبة تصل إلى 85%، وفق Gitnux وWorldmetrics.
وتبرز آثار هذا التضليل في أوقات الكوارث والأزمات؛ ففي أثناء حرائق لوس أنجلوس، واجهت السلطات سيلًا من الشائعات، من بينها صور مفبركة مولّدة بالذكاء الاصطناعي. وفي أيار/مايو 2025 اندلعت حرب معلوماتية بين الهند وباكستان، غذّتها مقاطع مزيفة دفعت التوتر إلى حافة الحرب قبل أن يوقف إطلاق النار في العاشر من الشهر نفسه. وفي Merseyside بالمملكة المتحدة، أسهم التدخل السريع من المجتمع المدني والشرطة في احتواء الشائعات، بينما أدى التأخر في جنوب Port إلى فراغ معلوماتي استغلته نظريات المؤامرة.
عقبة التنوع بين اللهجات العربية
في منطقة تتسم بتعدد اللغات وتشابك السياقات، أصبح الذكاء الاصطناعي أداة محورية في كشف التضليل، الذي يشمل الشائعات ونظريات المؤامرة والمحتوى الزائف غير المقصود، بينما يُقصد بالتضليل النشر الممنهج بغرض الخداع. وتتطلب المواجهة أدوات للكشف المبكر، وتقنيات تحد من الانتشار، وجهودًا لرفع الوعي الإعلامي.
يشكّل التنوع اللغوي عقبة كبيرة، فالمحتوى لا يقتصر على العربية الفصحى، بل يمتد إلى اللهجات المحلية والفرانكو-عربية، ما يعقّد الرصد الآلي، إذ قد تحمل الكلمة الواحدة معاني متباينة. ويزداد التحدي مع تنوّع وسائط النشر من مقالات وتغريدات وصور وفيديوهات و«ميمات»، إضافة إلى ندرة البيانات الموثوقة التي تفتح المجال أمام ما يُعرف بـ«استغلال فراغات البيانات».
وأظهرت دراسة موسعة على ملايين التغريدات أن الحسابات الآلية (البوتات) تُضخّم المحتوى غير الموثوق، خصوصًا في مراحله الأولى، وفق arXiv وPMC. وبناء أنظمة كشف فعّالة يستلزم قواعد بيانات موسعة تشمل اللهجات ووسائط الاتصال، لكن محدودية البيانات تعرقل هذه الجهود.
تداعيات تراجع الثقة
أدى انتشار المعلومات المضللة إلى تراجع معدلات توزيع الصحف ومشاهدة القنوات في المنطقة العربية بنسبة تتراوح بين 30% و70%، تزامنًا مع انخفاض ثقة الجمهور بالمصادر الإخبارية بنحو 40% خلال السنوات الخمس الأخيرة. وازدادت الأزمة حدة خلال جائحة كورونا، حينما قدّمت بعض الحكومات بيانات مضللة عن أعداد الإصابات والعلاجات، ما عمّق الشكوك وزاد من حدة الارتباك.
وأظهرت دراسة أُجريت بين عامي 2019 و2022 أنّ 80% من جمهور بعض الدول العربية باتوا يشككون في قدرة الإعلام على نقل الحقيقة، فيما رأى 51% أنّ تضارب الأخبار يفاقم الارتباك الاجتماعي. ولم يقتصر أثر التضليل على المعرفة فحسب؛ إذ أثبتت دراسة منشورة على arXiv وجود علاقة مباشرة بين التعرض للمعلومات الزائفة وارتفاع مستويات القلق والإجهاد بنسبة دلالة p = 0.003871 ودقة تصنيف بلغت 98.4%.
أما الأخبار الكاذبة حول لقاحات كوفيد-19 فقد كبّدت الاقتصاد الأمريكي خسائر تتراوح بين 50 و300 مليون دولار يوميًا، بحسب bu.edu. وفي المقابل، يظل التثقيف الإعلامي استثمارًا طويل الأمد، خصوصًا مع ما تكشفه الإحصاءات من أن 19% فقط من المستخدمين أتموا برامج تدريبية في الوعي الرقمي بحلول عام 2025، فيما أقر 64% منهم بأنهم شاركوا أخبارًا اتضح لاحقًا زيفها، بينما يصادف أكثر من 90% من المراهقين التضليل بانتظام.
استراتيجيات متكاملة للمواجهة
تشير الدراسات إلى أنّ مواجهة التضليل تتطلب منظومة شاملة متعددة الأبعاد تقوم على ثلاث ركائز أساسية. الأولى هي التدخل الاستباقي بالذكاء الاصطناعي عبر تطوير خوارزميات قادرة على رصد أنماط الأخبار المضللة قبل انتشارها، مع الالتزام بالمعايير الأخلاقية وضمان خصوصية المستخدمين. والثانية تتمثل في تعزيز التربية الإعلامية بدمج برامج التوعية في المناهج الدراسية منذ المراحل المبكرة، إلى جانب إطلاق حملات موجهة لكل الفئات لترسيخ الوعي النقدي. أما الركيزة الثالثة فهي إقامة شراكات فاعلة بين المنصات الرقمية ومؤسسات التحقق المستقلة، بما يضمن مراجعة المحتوى المشكوك فيه بسرعة وكفاءة.
ورغم هذه الجهود، تظل التحديات ماثلة بفعل الطبيعة اللامركزية للإنترنت وصعوبة الموازنة بين حرية التعبير وضبط المحتوى. فالمعلومات المضللة تقوّض الثقة بالمؤسسات الديمقراطية وتزيد حدة الاستقطاب، لكن الذكاء الاصطناعي قادر على أداء دور محوري إذا استُخدم بحذر. ويُنتظر من الحكومات وضع أطر تنظيمية شفافة تُحمّل المنصات مسؤولية ما يُنشر، مع تعزيز التعاون الدولي للتصدي للحملات العابرة للحدود.
وقد أثبتت بعض المبادرات فعاليتها، مثل برنامج Birdwatch الذي أصبح لاحقًا Community Notes على منصة X، حيث ساهم في خفض انتشار الأخبار الزائفة بنسبة 12% في المناطق التجريبية. ويواصل تحالف Trusted News Initiative جهوده لمكافحة التضليل المرتبط بالمناخ والحرب الروسية الأوكرانية، فيما تطور شركات متخصصة مثل Cyabra أدوات متقدمة لكشف الشبكات المضللة وتحليل المحتوى المولّد بالذكاء الاصطناعي.
وعي المجتمع حصن الصمود
تستند الرقابة الشعبية للأخبار والتصحيح المجتمعي إلى شجاعة الأفراد في مواجهة الزيف، لكن الخوف من العزلة يدفع البعض للتردد، فيما تُغذي «دوامة الصمت» الميل إلى تجنب التصحيح حفاظًا على الروابط الاجتماعية. حملات التوعية تسعى لتغيير هذه القناعات وتشجع على المشاركة، بينما تعزز استراتيجيات «التطعيم المعرفي» مناعة الأفراد عبر تعريضهم لجرعات خفيفة من التضليل.
وتؤكد النماذج البحثية أن مواجهة طوفان التضليل تتطلب مزيجًا متكاملًا من أدوات الذكاء الاصطناعي، وشبكات تحقق فاعلة، ومشاركة مجتمعية تراعي السياقات الثقافية. تدريب الأنظمة على بيانات محلية بإشراف بشري يضمن دقة أكبر، فيما تلعب حملات الرسائل الاجتماعية والآليات التي تقدم التصحيح كفعل جماعي إيجابي دورًا محوريًا. ومع الدعم الحكومي والتثقيف الإعلامي، تصبح المجتمعات أكثر قدرة على الصمود أمام زحف التضليل.
aXA6IDQ1LjE0LjIyNS4xMCA= جزيرة ام اند امز